رواة محترفون ونحن لا نصل إلى نهاية العصر الإسلامي ومطلع العصر العباسي حتى تنشأ طبقة من الرواة المحترفين الذين يتخلون رواية الشعر الجاهلى عملا أساسيا لهم ، وتختلط في هذه الطبقة أسماء عرب وموال ، وأسماء قراء القرآن الكريم وغير قراء ، عاشوا غالبا في البصرة والكوفة . ولم يكونوا يقفون عند رواية الشعر القديم مجردة ، بل كانوا يضيفون إليها كثيرة من الأخبار عن الجاهلية وأيامها ، وكانوا يتخذون لأنفسهم حلقات في المسجد الجامع بحاضرون فيها الطلاب وفي أثناء ذلك يشرحون لهم بعض الألفاظ الغريبة ، أو يفسرون لهم ظروف النص التاريخية . وأهم هؤلاء الرواة أبو عمرو بن العلاء حماد الراوية وخلف الأحمر ومحمد ابن السائب الكلى والقضل الضبي ، وقد استقوا روايتهم من القبائل والأعراب البدو ، وكان بعضهم يرحل إلى نجد أحيانا ليست الأشعار والأخبار الجاهلية من ينابيعها الصحيحة ، وكان بين البدو أنفسهم من هاجر إلى الكوفة والبصرة حيث هؤلاء الرواة العلماء لمدهم بما بریلون . وقد أظهروا في عملهم مهارة منقطعة النظير ، إذ تحولوا يجمعون المادة الجاهلية جميعها ، وكان من أهم الأسباب في ذلك تفسير ألفاظ القرآن الكريم ، فقد جرت عادة المفسرين منذ ابن عباس على الاستشهاد بالشعر الجاهلي في شرح ألفاظ الذكر الحكيم ، وأيضا فقد انبرت جماعات تحاول وضع قواعد العربية وجمع ألفاظها ، واعتمدت في ذلك اعادة شديدة على الشعر الجاهلي فهو مادة اللغة ومادة قواعدها وقوانينها التي ينبغي أن تتبع . على أن هاتين الغايتين سرعان ما انفصلتا عن عمل الرواة ، وأصبحوا يقصدون لجمع هذا الشعر في ذاته ومن أجل نفسه ، وقد حملته إليهم الموجة الحادة من روايته في أثناء العصر الإسلامي ، ومن المهم أن نعرف أنهم قلما يذكرون من حملوا عنهم هذا الشعر ، فهم يغفلون أسانيدهم إلا قليلا ( ۱ ) . ولا نكاد نمضي في العصر العباسي حتى يكون هؤلاء الرواة مدرستين متقابلتين : مدرسة في الكوفة ومدرسة في البصرة ، وعرف الأولون بأنهم لا يتشددون في روايتهم تشدد الأخيرين ، ومن ثم تضخمت رواياتهم ودخلها موضوع ومنتحل كثير . ولعل من الطريف أن نعرف أن الكوفة عرفت في الحديث النبوي بالوضع والانتحال أيضا حتى كان مالك بن أنس يسميها دار الضرب بريد أنها تضرب الأحاديث وتصنعها كما تضرب الدراهم والدنانير وتصنع . يقول أبو الطيب اللغوي : « والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة ، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله وذلك بین في دواوينهم ( ۲ ) . وندد بهم البصريون كثيرة ، وبادلهم الكوفيون نفس التنديد ، فكان كل منهما يشكك في الآخر ( ۳ ) ، ولكن إذا صفينا هذه التشكيكات والتنديدات اتضح لنا أن رواية البصرة في جملتها أوثق من رواية الكوفة . وليس معنى ذلك أن رواة الكوفة في الحملة كانوا منهمين بخلاف رواة البصرة ، وموثقون أحاطوا روايتهم بسياج من الأمانة والدقة والتحري . وربما كان السبب الحقيقي في تقدم البصرة على الكوفة في الرواية أن رأس رواتها وهو أبو عمرو بن العلاء كان أمينة ، بينما كان رأس رواة الكوفة حمادة ، لا يوثق بما يرويه . وكان أبو عمرو من مؤسسي المدرسة النحوية في البصرة ، وأحد القراء السبعة الذين أخذت عنهم تلاوة الذكر الحكيم ، ولد سنة ۷۰ للهجرة ، وتوفي سنة 154 وقيل سنة ۱۰۹ : وكان أعلم الناس بالغريب والعربية وبالقرآن والشعر وبأيام العرب وأيام الناس وكانت كتبه التي كتبها عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف . ثم إنه تقرا أي تنسك فأحرقها ، وكان إمامهم وقلوهم . ويحكي عنه أنه قال : ( ما زدت في شعر العرب إلا بينا واحدا ، یعنی ما روی للأعشى من قوله : وأنكرنی وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا ( ۲ ) حاول بعض الباحثين التشكيك في روايته لهذا الاعتراف ( ۳ ) ، وهو اعتراف يوثق روايته ويزيدها قوة ، وفي سيرته ما يدل دلالة قاطعة بأنه كان ثقة ، فقد كان تقا صالحا ، وكان أحد الأعلام الذين اخذت عنهم تلاوة القرآن الكريم . أما حماد رأس رواة الكوفة فكان من الموالي ، ولد سنة ۹۰ للهجرة ، وتوفي سنة ۱۰6 وقيل بل سنة 164 ويقال إنه : ( كان في أول أمره يتشطر وبصحب الصعاليك واللصوص ، فقرأه حماد ، فاستحلاه وتحفظه ، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك وترك ما كان عليه ، فبلغ في العلم ما بلغ ، وربما كان مما يصور هذا العلم ومداه ما يروى عن مروان بن أبي حفصة من قوله : « دخلت أنا وطريع ابن إسماعيل التقني والحسين بن مطير الأسدي في جماعة من الشعراء على الوليد ابن یزید ( ۱۲۰ - ۱۲۹ ) ه وهو في فرش قد غاب فيها ، وإذا رجل عنده كلما أنشد شاعر شعرة وقف الوليد بن يزيد على بيت بيت من شعره وقال : هذا أخذه من موضع كذا وكذا ، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان ، حتى أتي على أكثر الشعراء ، قلت : من هذا ؟ فقالوا حماد الراوية ( 0 ) وروی عن الهيثم بن على أنه كان يقول : « ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد " ) . اسم الراوية علما عليه ، ويروى أن الوليد بن یزید سأله بم استحققت هذا اللقب قيل لك الراوية ؟ فقال : « بأني أروى لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ، ثم أرى لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به ، ثم لا " أنشد شعرا قديما ولا محدثا إلا میزت القديم منه من المحدث ، فقال الوليد : إن هذا العلم و وأبيك كثير ، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر ؟ قال كثيرا ، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مثه قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام ، قال : سأمتحنك في هذا ، وأمره بالإنشاد ، فأنشد الوليد حتى ضجر ، ويستوف عليه ، وأخبر الوليد بذلك ، فأمر له بمئة ألف وقد يكون في هذا الخبر ضرب من المبالغة ، غير أنه بصور مدى ما استقر في أذهان معاصريه عن معرفته وروايته للشعر الجاهلي . ومن سوء حظ الكوفة أن كان هذا الراوية البارع فاسد المروءة فاسقة ماجنا زندیقا ) ، وكان شاعرا يحسن صوغ الشعر وحوكه ( ۳ ) فكان ينظم على لسان الجاهليين ما لم ينطقوا به ، وكثر منه ذلك حتى عرف به واشتهر ، يقول الأصمعي : جالسته فلم أجد عنده ثلاثمائة حرف ولم أرض روايته ، وكان ذو الرمة حاضرة ، فقال له : إنها ليست لك ، وسرعان ما اعترف بأنها جاهلية ) ويقال إنه قدم عليه مرة ، فقال له : ما أطرفتی شيئا ؟ فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة بمديح أبي موسى الأشعري ( جد بلال ) فقال بلال : ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروى شعر الحطيئة ! ولكن دعها تذهب في الناس ) وقصته في مجلس أمير المؤمنين المهدی مع المفضل الضبي مشهورة ، فقد زاد ثلاثة أبيات في مطلع قصيدة زهير : ( دع ذا وعد القول في هرم ) فأنكرها المفضل ولما سأله عنها المهدي بكل يمين محرجة اعترف بأنه أضافها من عنده ، فأمر المهدي أن ينادي في الناس بإبطال روايته الكذبه وبصحة رواية المفضل مواطنه ( ۱ ) . وحاول بعض الباحثين التشكيك في القصة ( ۲ ) ، لأن المهدی ولى سنة ۱۰۸ بعد وفاة حماد ، ولكن هناك من تأخروا بوفاته إلى سنة 164 كما قدمنا ، وربما أخطأ الرواة في تعيين الزمان والمكان ، إذ ذكروا أن القصة حدثت في قصر عيسابان الذي بناه المهدي في سنة 164 بينها أرخوا لها بسنة ۱۰۸. وحتي على فرض بطلان هذه القصة فإن هذا البطلان لا بدفع التهمة عن حماد ، كما لا يدفعها ما يذكره بعض هؤلاء الباحثين من أن اتهامه الواسع قد يرجع إلى المنافسة بين البصرة والكوفة ، فسيرته كانت سيرة شخص سن السيرة خلقيا ودينيا ، وما كان ابن سلام البصري ليقول فيه : « كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية ، وكان غير موثوق به : كان بنحل شعر الرجل غيره ، وينحله غير شعره ويزيد في الأشعار ( ۳ ) بعامل المنافسة والعصبية ، ونفس البصريين الذين اتهموه وثقوا رواية مواطنه رمعاصره المفضل الضبي . وإنما هي حقيقة واقعة ، ونفس الرواة الأثبات من بلدته كانوا يشركون البصريين في نفس التهمة ، فابن الأعرابي الكوفي بروی عن المفضل أنه قال : قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده ، فلا يصلح أبدا ، فقيل له وكيف ذلك ؟ أيخطئ في روايته أم يلحن ؟ قال : ليته كان كذلك ، لا ، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم ، بل كانت بصرية كوفية ، وربما بالغ بعض البصريين فقال عنه إنه كان يلحن ويكسر الشعر وبصحف ويكذب ( 2 ) ، ولكن بعد تجريد التهمة من مبالغانها تظل عالقة به . ولذلك ينبغي أن لا نقبل شيئا مما يروى دون أن يأتينا عن الرواة الثقات ، وكذلك ينبغي أن نتشكك فيما يرويه تلاميذه مثل ابن كناسة المتوفى سنة ۲۰۷ وخلف الأحمر راوية البصرة المشهور إذ كان قد أكثر الأخذ عنه ( ۱ ) ، ويروى أنه كان يعطى حمادة المنحول فيقبله منه ويرويه ( ۳ ) . ومن رواة الكوفة الذين عاصروا حمادا واشتهروا بالوضع برزخ العروضی وكان من أكذب الناس في الرواية ( ۳ ) ومثله جاد وكان يخلط في الأشعار وبصحف ويلحن ) . وإذا كانت الكوفة أصيبت بمثل هؤلاء الرواة الوضاعين الذين ينحدرون من أصول غير عربية فقد كان من ورائهم رواة ثقات على رأسهم المفضل بن محمد ابن يعلى الضي المتوفي حوالي سنة ۱۷۰ للهجرة وكان عالك علما دقیقا بأشعار الجاهلية وأخبارها وأيامها وأنساب العرب وأصولها ، ويجمع الرواة كوفيين و بصريين على توثيقه ، وقد خلف مجموعة كبيرة من أشعار الجاهليين هي الملقبة بلقب المفضليات ، وهي أروع ما بأيدينا من نصوص الشعر الجاهلي ووثائقه التي لا برقی إليها الشك . وإذا ولينا وجوهنا نحو البصرة في الحقبة التي تلت أبا عمرو بن العلاء وجدنا بها خلف الأحمر الذي تسدد إليه سهام الاتهام ، بل لعله يتقدمه ، وكان بصيرا بالشعر ، وأصل أبويه من فرغانة فهو من الموالي ، ولد سنة ۱۱۰ للهجرة وتوفي حوالي سنة ۱۸۰ وفيه يقول ابن سلام : « اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس بيت شعر وأصدقهم لسانا ، وكنا لانبالي إذا أخذنا عنه خبرا أو أنشدنا شعرا ألا نسمعه من صاحبه ( 2 ) غير أن شهادة ابن سلام له لا تعفيه من التهمة الشديدة التي سلطت على روايته ، وقد شهد هو نفسه بها إذ زعم كما قدمنا أنه كان يعطى حماد المنحول من الشعر ويزيفه عليه فيرويه ، ويقال إنه هو الذي وضع اللامية المنسوبة إلى الشنفرى ( ۱ ) : : أقيموا بني أي دور ميكم فإني إلى قوم سوا كم لأنيل كما وضع اللامية الأخرى المنسوبة إلى تأبط شرا أو إلى ابن أخته ( ۱ ) : إن بالشعب الذي دون تمنع القنبلا ده ما بطل وتصدى له الأصمعي مرارا بتهمه بالوضع والتحل ، وعلى غيره ، .م فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة ، ( ۲ ) وعرض مرة لرواة الكوفة بصفهم بأنهم يقبلون كل ما يرد عليهم ، فقال : « رواة غير منقحين ، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دؤاد الإيادي قالها خلف الأحمر ، وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية ، إليها يرجعون و بها يفتخرون » ( ۳ ) . ويظهر أن البصريين كانوا بتجامون روايته ، بينما كان يحملها الكوفيون رواة حماد وأضرابه ، ويقول المبرد فيه موضحا ذلك : « لم ير أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه ، وكان يعمل على ألسنة الناس ، فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه ، ثم نسك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة ، وبذل له بعض الملوك ما لا عظيا خطيرا على أن يتكلم في بيت شعر شکوا فيه ، فأبى ذلك فقال : قد مضى لي في هذا ما لا أحتاج إلى أن أزيد فيه . وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم ، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه ، وبلغ مبلغا لم يقار به حماد . فلما تقرأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس ، فقالوا له : أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة ، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم ( 4 ) . وواضح من ذلك أن الكوفة هي التي حملت رواية خلف بالإضافة إلى رواية حماد ، أما البصرة فقد حمل فيها بعض الرواة روايته ، ووثقوه وعدلوه ، ولكنه نیل مردود ، وهو عربي صليبة ، أو ۲۱۷ ، وفيه يقول ابن جني : ( وهذا الأصمعي هو صناجة الرواة والنقلة ، وإليه محط الأعباء والثقلة . كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حدث لأخذ قراءة نافع عنه ، ومعلوم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته ، لأنه لم يقو عنده إذ لم يسمعه ، وإما إسفاف من لاعلم له وقول من لامسكة به إن الأصا كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفو عليه غير معبوء به ( ۱ ) ويقول أبو الطيب اللغوي : . فأما ما بحكيه العوام وسقاط الناس من نوادر الأعراب و يقولون : هذا مما افتعله الأصمعي . وأنى يكون الأصمعي كما زعموا وهو لا يفي إلا فيا عليه العلماء ويقف عما ينفردون به عنه ، ولا يجوز إلا أنصح اللغات ویلج في دفع ما سواه ) . وله مجموعة مشهورة من الشعر القديم في الأصمعيات وهي كالمفضليات ورويت عنه دواوين كثيرة أشهرها الدواوين الستة : دواوين امرئ القيس والنابغة وزهير وطرقة وعنترة وعلقمة بن عبدة الفحل . وكان يعاصره عالمان كبيران هما أبو زيد وأبو عبيدة ، سنة ۲۱4 أو ۲۱۰ ، وهو عربی انصاری خزرجي ، أما أبو عبيدة معمر بن المشي فولد حوالي سنة ۱۱۰ ونوف حوالي سنة ۲۱۱ وهو من الموالي وكانت فيه نزعة شعوبية صارخة ، وكان يهتم بالأنساب والأيام ، وشرح نقائض جرير والفرزدق شرحه المشهور . وكان بجانب هؤلاء الذين تحدثنا عنهم رواة يختلفون ثقة وتجريحا مثل الهيثم این عدى المتوفى سنة ۲۰6 وكان يهتم بالأخبار التاريخية وتشوب التهمة روايته ، وأكثر منه تهمة في هذا الباب محمد بن السائب الكلي المتوفى سنة 146 للهجرة وابنه هشام المتوفى سنة ۲۰4 وهما من كبار الوضاعين ويروى عن هشام أنه كان يقول : ( کنت استخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة ( المناذرة ) ومبالغ أعمار من ولى منهم لآل کسری وتاریخ نسبهم من كتبهم بالحيرة ( 1 ) . وينتظم في سلك هؤلاء المؤرخين الواقدي والمدائی . وخلف بعد من قدمنا تلاميذهم من رواة القرن الثالث ، وعلى رأسهم أبوعمرو الشيباني المتوفى سنة ۲۱۳ وابن الأعرابي المتوفى سنة ۲۳۱ م الكوفيان وكان وراءهما كثير من الرواة في بلدتهم مثل محمد بن حبيب وابن السكيت المتوفى حوالى سنة ۲44 وثعلب المتوفي سنة ۲۹۱ . وانتهت الرواية في البصرة إلى أبي سعيد الحسن ابن الحسين السكري المتوفى سنة ۲۷۰ وإليه برجع الفضل في جمع كثير من الدواوين الجاهلية ، وأنه إن كان هناك رواة مهمون ، فقد كان لهم العلماء الأثبات بالمرصاد أمثال المفضل الكون والأصمعي البصري ، وما مثل الشعر الجاهلي في ذلك إلا مثل الحديث النبوي ، فقد دخله هو الآخر وضع كثير ، ولكن العلماء استطاعوا تمییز صحيحه من زائفه ، وقدموا لنا كتب الصحيح الستة المشهورة ، وكذلك الشأن في الشعر فقد دخله فساد كثير ، ولكن أصحابه الأثبات استطاعوا - في مهارة بالغة - أن يميزوا صحيحه من زائفه ، غير تاركين منفذا إلى ذلك سواء في سند الرواة أو في المتن نفسه ، بل إن ابن سلام ليقدمهم على علماء الحديث في هذا الباب ، يقول : احدثي يحيى بن سعيد القطان قال : رواة الشعر أعقل من رواة الحديث ، لأن رواة الحديث يروون مصنوعا كثيرا ، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون هذا مصنوع : فينبغی وأن لا نتخذ من كثرة الاتهامات في بيئة الرواية اللغوية مزلقا إلى الطعن في الشعر الجاهلي عامة ، إنما نطعن على ما طعن الرواة الثقات فيه حقا ، ونضيف إليه ما يهدينا بحثنا الحديث إلى تزييفه . أما بعد ذلك فتبني عامة ما رواه أثباتهم کالفضل والأصمعی محیحة . وكانا يتحریان تحربا شديدا . فلنهمل إذن من الشعر الجاهلي ما جاءنا منه عن أمثال حماد وخلف الاحمر وكذلك ما جاءنا منه عن طريق أصحاب الأخبار المتزيدين أمثال عبيد بن شرية ومحمد بن السائب الكلبي وابنه هشام وما وضعه القصاص عن العرب البائدة ، وأيضا ينبغي أن نهمل ما اختلف فيه الرواة ، أما ما اتفقوا عليه أو جاءنا عن أثباتهم فينبغي أن نقبله . وكانوا يأخذون بهذا القياس ، يقول ابن سلام : « وليس لأحد - إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه ( من الشعر ) - أن يقبل من صحيفة ولا بروی عن مصحفی ( ۱ ) ويقول : ( قد اختلفت العلماء في بعض الشعر كما اختلفت في بعض الأشياء ، أما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه ( ۲ ) . واحتفظ ابن سلام في طبقاته بمادة وفيرة من نقد البصرة للرواية والرواة ، فهو تارة يعد للشاعر القصائد الصحيحة النسبة إليه ، وتارة يقف عند بيت أو أبيات بعينها تنسب لشاعر من الشعراء الجاهليين و ينص على أنها منتحلة ، فمن الضرب الأول قوله عن طرقة وعبيد بن الأبرص : ( ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد بن الأبرص اللذين صح لهما قصائد يقدر عشر . غير آن الذي نالهما من ذلك أكثر ، وكانا من أقدم الفحول فلعل ذلك لذاك ، وشعره مضطرب ذاهب ، لا أعرف له إلا قوله : من فالقطبيا فالأنو ولا أدري ما بعد ذلك ( 4 ) . ومن الضرب الثاني إنكاره أن يكون النابغة هو الذي قال : فألفيت الأمانة لم تنها كذلك كان نوع لا يخو وقد عقب على إنكاره بأن أهل العلم أجمعوا على أن النابغة لم يقل هذا ) ، أفقر أهله ملحوب وعلى هذا النحو صفی علماء الرواية واللغة الشعر الجاهلي من شوائب كثيرة علقت به ، وإن كنا لا ننكر في الوقت نفسه أنهم تناولوا أشياء منه بالتنقيح ، غير أن ذلك كان في حدود ضيقة ، كأن يبدلوا كلمة مكان كلمة ، فقد كانت تسقط على لسان الشعراء أحيانا أشياء من لهجاهم القبلية ، فكانوا يصلحوها ، وقد يصلحون عروض بعض القصائد ،التلوين متر بنا أن العرب لم يكونوا شعرهم في الجاهلية ، وأن ما يذكر من أخبار عن كتابة بعض شعرائهم المقطوعات لهم ، إن صح ، فإنه لا يدل على أنهم فكروا فعلا في تدوين أشعارهم ، إنما هي قطع تكتب على حل أو على حجر أو جلد لإنباء القبيلة أو بعض أفرادها بحادث . وقد تقينا أن يكونوا علقوا المعلقات في الكعبة وكذلك رفضنا رواية حماد عن تلوين النعمان بن المنذر لأشعار العرب وما مدح به هو وأهل بيته . ومن الأدلة على ذلك أننا لانجد راويا ثقة يزعم أنه نقل عن قراطيس كانت مكتوبة في الجاهلية ، ويرددها في ذاكرته ، ثم ينشدها ، ويحملها الناس عنه ، ومن ثم قال الجاحظ : ( وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام . فما هو إلا أن يصرف ( العربي ) وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذى إليه يقصد ، فتأتيه المعاني أرسالا ( أفواجا ) وتتثال عليه الألفاظ انثيالا ،وظل هذا شأن العرب في صدر الإسلام ، فهم يتناشدون الشعر ولا يقيدونه إلا قليلا وفي ظروف خاصة ، حتى مرت الأمصار ، وراجعت العرب الأشعار ، وأخذت فكرة التدوين تسلك طريقها في تسجيل غزوات الرسول وأحاديثه وفي تقييد بعض الأخبار التاريخية ، فدون زياد بن أبيه كتابا في المثالب ، ودون عروة ابن الزبير غزوات النبي عليه السلام وحروبه ، ودون معاوية أخبار عبيد بن شرية أو بعبارة أدق أمر غلمانه بتدوينها ، وأخذ بعض الصحابة والتابعين بدون أحاديث الرسول عليه السلام . وقد يكون في تدوين الأحاديث ما ينير لنا الطريق في تدوين الشعر ، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين كان ينكر تدوينها ، وكذلك نستطيع أن نقول إنه على الرغم من اهتمام القبائل بشعرها الجاهلي وشعرائها الذين يعدون مناط شرفها وفخارها لما يسجلون من مناقبها وأمجادها ومثالبخصومها فإنها لم تعمد إلى تدوين هذا الشعر إلا في حقبة متأخرة من عصر بني أمية . ، ويظهر أنهم لم يكونوا يدونون أشعار شعرائهم وحدها ، ولعل أقدم إشارة إلى هذه المدونات ما أسلفنا من رواية أصحاب الأخبار عن حماد في أول تعلقه بالشعر من أنه تقب ليلة على رجل ، وكان فيا أخذه جزء من شعر الأنصار ! و بزعم حماد أن الوليد بن يزيد أرسل في . طلبه ، فقال في نفسه : ولا بسألي إلا عن طرفيه : فريش وثقيف ، فنظرت في كتابي قريش وثقيف ) ويروى عن ثعلب أن الوليد بن يزيد جمع ديوان العرب وأشعارها وأنسابها ولغاتها ، وأنه طلب لذلك من حماد وجناد الكوفيين ما عندهما من هذا الديوان ، ثم رد إليهما ما أخذه منهما ( ۲ ) . وإن صحت هذه الأخبار كانت دليلا على أنه أخذت تظهر مع أوائل القرن الثاني ملونات تاريخية للقبائل لعلها هي التي أعدت فيما بعد لتدوين الرواة أشعار كل منها على حدة بنفس الصورة التي تعرفها لديوان هذيل . وتمضي بعد عصر الوليد بن بزبد فيلقانا أبو عمرو بن العلاء ، وكان يعتمد على الرواية ، ولكنه كان يقيد إلى جانبها كثيرا من الأشعار والأخبار حتى قالوا إن تأخذ ما عنده كتبه ملأت بيتا له إلى قريب من السقف ، ثم تقرأ ( تنسك ) فأحرقها كلها ، وكان حماد على ما يظهر يعني بالرواية أكثر من عنايته بالكتابة ، بل لعله لم يكن يعني بالكتابة ، إنما كتب عنه تلاميذه ، يقول صاحب الفهرست : دلم بر لحماد کتاب ، و روى للمفضل الضی کتب صنفها ، فيها أشعار وأخبار ( ۳ ) ومن المؤكد أنه لم يكتب مفضلياته ، وإنما أنشدها تلاميذه فحملوها عنه . ولعلنا لانخطئ إذا قلنا إن الرواة الأولين لم يدونوا ما رووه لطلابهم ، ولم يكن هذا شأن رواة الشعر وحدهم ، بل كان شأن رواة التاريخ الجاهلي جميعهم مثل محمد بن السائب الكلبي فإن ابنه هشاما هو الذي حمل مادة أخباره ودونها في كتبه ، بل أملى إملاءات جمع منها سيبويه كتابه المشهور . وكانوا يتأثرون في ذلك برواة الحديث ، وربما كانت الحاجة عندهم أمس ، لأن الشعر يحتاج إلى تلقين حتى لا يلحن فيه من بنشده ، ولذلك كانوا ينبذون في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث من يلحن فيه بأنه صحني بأخذ عن الصحف ، ولا يأخذ شفاها عن مشيخة العلماء باللغة والشعر ومن ثم ضعفوا من بروی عن المدونات ولم يقبلوا روايته إلا أن يكون قد أخذها عن شیخ ، ولذلك ضعف ابن سلام رواية من يتداولون الشعر القديم من كتاب إلى كتاب ، يقول : « ليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا بروی عن صحني ، . والرواة التالون لهؤلاء الرواة المتقدمين هم الذين يرجع الفضل إليهم في تدوين الشعر الجاهلي تدوينا منهجا قائما على التوثيق والتجريح ، وعلى رأسهم الأصمعی ، وقد حصر اهتمامه في جمع الشعر الجاهلي في دواوين ومجموعات صحيحة . وكان هؤلاء الرواة المدونون لا يكتفون بالسماع من جلة الرواة السابقين ، فكانوا يرحلون إلى الصحراء العربية ليتوثقوا ما برو ونه على نحو ما هو معروف عن الأصمعی. نفسه وعن أبي عمرو الشيباني الذي يقال إنه دخل البادية ومعه دستیجتان من حبر ، فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب ( ۱ ) وكان بعض الأعراب يفد على الحواضر وقد يقيم فيها ليسد هذه الحاجة عند الرواة . والمهم أنهم لم يكتفوا بالاعتماد على ذاكرتهم صنيع الرواة من قبلهم ، بل كانوا يدونون ما يسمعونه ويحتفظون به ويقرعون منه في مجالسهم وينقله عنهم طلابهم . وأخذت موجة هذا التدوين تقع اتساعة شديدة ، ويستطيع من يرجع إلى الفهرست وكتب التراجم أن يطلع على هذا النشاط التأليفي الذي لا يكاد يبلغه الحصر والعد ، فقد ترك هشام بن محمد الكلبي نحو مائة وأربعين كتابا ، وكانت كتب المدائى لا تقل عنها عددا ، بينها خلف الهيثم بن عدى خمسين مصنفا ، وأكثر كتبهم يعد مفقودة ومن بينها ما يشير إلى عناية بالشعر ككتاب أخبار خزاعة للمدائی وأخبار طبي للهيئم ، وقد نشر الأصنام لابن الكلبي وهو يمتلىء بالشعر الجاهلي مما يدل على أنه كان يملأ كتبه به على أنه يلاحظ إزاء هؤلاء المؤرخين أن كثيرا منهم لم يكن دقیقا فيما يجمع من شعر ، ولعل ابن إسحق صاحب السيرة النبوية أشهرهم في هذا الباب ، مولى آل محرمة بن المطلب بن عبد مناف ، وكان من علماء الناس بالسير . فقبل الناس عنه الأشعار ، وكان يعتذر منها ويقول : لا علم لي بالشعر أونى به فأحمله . ولم يكن ذلك له عذرا . ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة ، وليس بشعر إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف ، أفلا يرجع إلى نفسه ، فيقول : من حمل هذا الشعر ومن أداه منذ آلاف السنين والله تبارك وتعالى يقول : ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا أي لا بقية لهم ، وقال ابن سلام أيضا في ابن إسحق : « فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحق ومثل ما رواه الصحفيون ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل على علم ، وتعقب ابن هشام في سيرته ابن إسحق ورد كثيرا مما روى ، أو صحح نسبته . فقد ردها الرواة المحققون ، ومع ذلك يتعلق بها بعض الباحثين المحدثين ليشككوا في الشعر الجاهلي عامة ، مع أن القدماء رفضوها وردوها ، كما رفضوا وردوا رواية المتهمين من الرواة أمثال حماد وخلف . وليس معنى ذلك أننا نريد أن نوسع الأبواب فتقبل كثرة ما يروى عن الجاهليين ، بل نحن نضيقها تضييقا شديدا فلا نقبل إلا ما أورده الثقاة مثل أبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبي و فجملة ما رووه وثیق " . ولا نبالغ إذا قلنا إن ما رواه هؤلاء الثقات لا يزال مادة غفلا لم يدرس ولم يفحص ، وقد خلف من بعدهم خلف أتموا تدوين الشعر الجاهلى وأشهرهم في الكوفة أبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي وقد أشهر الأول بأنه . أشعار نیف وثمانين قبيلة ، وكان كلما عمل شعر قبيلة منها وأخرجه للناس كتب مصحفا وجعله في مسجد الكوفة ، وطبيعي أن يخرج دواوين القبائل راو كوفي لأن بيوتات العرب وأشرافها كانوا في الكوفة ولم يكونوا في البصرة ، ومن غير شك كانوا من أهم الأسباب التي أعانت على حفظ الشعر الجاهلي وروايته إلى أن دون في القرن الثاني . ويظهر أن الكتب الخاصة بالقبائل لم تكن تكتل برواية الأشعار بل كانت تضم إليها غير قليل من أخبارهم وأيامهم ، وربما كان هذا هو السبب في أننا نرى مؤرخيهم ينثرون في تاريخهم أشعارا كثيرة كأنهم يرون أنها سنده وعماده ، على نحو ما تصور ذلك كتب المدائی والواقدي وابن الكلبي . وكان رواة الشعر يمزجون بروايهم كثيرا من الأخبار التاريخية على نحو ما نرى في شرح النقائض لأبي عبيدة . وقد بقي من دواوين القبائل دیوان هذيل برواية السكري المتوفى سنة ۲۷۰ وفيه تختلط الأشعار بالأخبار ، ومن خير ما بصور ذلك فيه ديوان أبي ذؤيب . ومعروف أنه يقع في واحد وعشرين مجلد ضخما وأن للجاهليين فيه حظا موفورا . وهو يسوق هذه المادة الجاهلية الشعرية التاريخية مقترنة بأسناد ، تصور مصدرها ، فمن عرف بكذبه نبه عليه ، وحى من عرف بصدقه كان يراجع روايته على روایات معاصريه ودواوین الشعراء ، مبالغة في الدقة والتحرى . والكتاب مؤلف حقا في القرن الرابع الهجري ، ولكنه يستمد من رواة القرنين الثاني والثالث الهجريين كما يتضح من أسانيده ، فهم الذين جمعوا هذا التراث الجاهلي الضخم ، وأتاحوا لمن جاءوا بعدهم أن يؤلفوا مؤلفاتهم الكبرى ، سواء أكانت مجموعات شعرية أو أمالي أو أخبارا وتراجم . بل لقد بدأ منذ القرن الثالث تأليف هذه الكتب الجامعة مثل حماسة أبي تمام والبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد وعيون الأخبار لابن قتيبة وكتابة الشعر والشعراء . وربما كان السكري أمم راو ظهر في النصف الثاني من القرن الثالث ، فقد رويت عنه دواوین كثيرة ، وهو يجمع في روايته بين الروايتين الكوفية والبصرية إذ أخذ عن ابن حبيب وابن السكيت الكوفيين كما أخذ عن الرياشي وأبي حاتم السجستاني البصريين . ونمضى في القرن الرابع الهجري ، فيتكاثر التأليف والتدوين على نحوما هو معروف عن ابن دريد وابن الأنباري والقالي والمرزبانی ، وعملهم كما ذکرنا مشتق من عمل رواة القرن الثالث ، ونراهم يهتمون – مثل أبي الفرج الأصبهاني في أغانيه - بالسند ، فهم لا يكتفون غالبا بالراوي القريب الذي سمعوا منه ،