كان تيه بني إسرائيل هو إحدى عقوبات الله تعالى لهم على مخالفة أمره وأمر نبيه ورسوله موسى عليه السلام، وإن بني إسرائيل -مع إيمانهم بالله عز وجل في ذلك الوقت، وهو موسى عليه السلام- لما تخلفوا عن أمر من أوامر الله (هو الجهاد ضد الجبابرة في فلسطين) ونصائح نبيهم، هام بنو إسرائيل على وجههم في الصحراء 40 سنة، وانقطعت بهم وسائل الحياة وسبلها؛ قال تعالى ﴿وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ (سورة البقرة: 57)، وهي تربية من الله لهم وللجيل الجديد الذي بعدهم. وفي تناول قصة تيه قوم موسى عليه السلام، نجد قول موسى عليه السلام كما جاء في الكتاب العزيز ﴿قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين﴾. إن هذه الآية قالها كليم الله موسى عليه السلام لما رفض قومه دخول الأرض المقدسة التي فرض الله عليهم أن يدخلوها بالجهاد في سبيل الله تعالى، فقالوا لموسى عليه السلام ﴿قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون* قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين* قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾. هذا الكلام الذي قاله بنو إسرائيل لموسى عليه السلام بعد ما خرجوا من مصر، ورأوا بأم أعينهم ماذا حدث لفرعون من الغرق والانتقام الرباني، والأدلة الساطعة لرسالته ونبوته، ورأوا ماذا فعل وماذا بذل موسى عليه السلام من أجل دعوة التوحيد، ولقد رأوا الأعمال العظيمة والجهاد الكبير الذي بذله موسى وهارون من أجل استخلاصهم من قمع النظام الفرعوني، ومع هذا كله قالوا لموسى عليه السلام "اذهب أنت وربك فقاتلا، وقال "لمَ تؤذونني وأنا رسول الله إليكم؟"، كما قالوا "اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة"، وهنا قال موسى ﴿قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين﴾، فقال الله تعالى ﴿قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين﴾. والوصول إلى الأرض المقدسة والتمتع بخيراتها؛ الأرض المقدسة محرمة عليهم وممنوعون من دخولها والتحريم هنا تحريم فعلي عام، محتارين لا يعرفون إلى أين يسيرون، وهنا الصحراء التي ليس لها علامة يهتدى بها، وكتب الله على بني إسرائيل التيه في مجاهل سيناء حوالي 40 عاما، الذل والخنوع وعدم احترام القادة الذين ساهموا في إنقاذه من العذاب والبلاء، لأن الاستبداد والطغيان له أثره على النفس البشرية، وكان من ذلك الطغيان ﴿ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾، ومن علاماته أيضا ﴿قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين﴾. تعجز عن حمل الرسالة والقيم الإنسانية الرفيعة، والجهاد في سبيلها، والمتمثلة في دعوة الأنبياء والمرسلين إلى وحدانية الله والإيمان به وطاعته وتبليغ رسالته في كل مكان. قد ربى جيلا جديدا من أبناء التائهين، وتربت نفوسهم على توحيد الله وإفراد العبادة له والقيم الإنسانية الرفيعة من محبة العدل ودفع الظلم ومحاربة الظالمين، فسارعوا إلى الجهاد والقتال، اقتدروا بها في السعي والمطالبة والتغلب، وهكذا قال ابن خلدون. فلم يهلكهم الله كما فعل بالأمم السابقة التي عصت الأنبياء والمرسلين، وتجلى ذلك في النعم التي أنعم الله عليهم بها في هذا التيه، فكانت مدة التيه لتربية بني إسرائيل على الامتثال لأوامر الله تعالى. وفي ذلك درس لأصحاب الهمم والعزائم بأن تعلق جيل التمكين بربه هو أول وأهم أسباب نصرته، انفصل موسى وأخوه هارون عليهما السلام مع من أطاعهما واتبعهما من بني إسرائيل انفصالا وافتراقا عن الأغلبية العاصية للأمر من بني إسرائيل، وتاه بنو إسرائيل الفاسقون في صحراء سيناء، وصاروا يتخبطون في شعابها ووديانها في حيرة وتيه وضلال وضياع لا يعرفون ماذا يفعلون ولا إلى أين يسيرون. وهكذا تنتهي حياة موسى عليه السلام مع هذا الجيل من بني إسرائيل، وأخذ من الجيل الصغير الذين قال لهم موسى عليه السلام ﴿يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾ (يونس: 84)، فكان جوابهم ﴿ فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين* ونجنا برحمتك من القوم الكافرين﴾ (يونس:85)، والذين قال فيهم الله ﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين﴾ (يونس: 83). ولقد أشار الله إلى أهمية ذلك الجيل في قوله تعالى ﴿ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا﴾، ففتى موسى عليه السلام كان القائد لذلك الجيل الجديد الذي فتح بيت المقدس. مرحلة موسى عليه السلام كانت القضاء على النظام الاستبدادي الدكتاتوري والانتصار لدعوة التوحيد وبيان أن الشرك والكفر أوهن من بيوت العنكبوت واستخلاص الشعب الذي وقع عليه الظلم والاستبداد. مصير الطغاة وأتباع إبليس وجنود الشيطان إلى الزوال وإلى عذاب البرزخ وبئس المصير في الحياة الآخرة. الصبر على الشعب الذي وقع عليه الاستبداد معنى بارز في سيرة موسى عليه السلام والأذية التي تعرض لها من شعبه، فهذا درس ملهم للأحرار الثائرين على نهج سير الأنبياء والمرسلين في تخليص الشعوب من الظلم والاستبداد. حرص موسى عليه السلام على تربية وزرع القيم لجيل جديد، وقد ظهرت معالم تلك التربية والعناية بدخول فتى موسى عليه السلام يوشع بن نون بيت المقدس، ودخول بيت المقدس بعد وفاة موسى عليه السلام. وما كان لبني إسرائيل أن يصلوا إلى العصر الذهبي في عهد داود وسليمان عليهما السلام لولا الله تعالى ثم جهود موسى عليه السلام في القضاء على نظام الاستبداد وقمع الشعوب المتمثل في النظام الفرعوني. ويذهب بأسها وتضرب عليهم الذلة والمسكنة، ورفعت عن عنقه نيرها، ويحن إلى الاستبداد وإلى الظلم والذل، وينفلت من قيم الحرية والمساواة والكرامة، وإذا أتيحت له فرصة في إذلال من ساعده على التخلص من أغلال تلك الأنظمة الفاسدة أذاقه سوء العذاب، فالدرس والمعنى هو أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، وأن نعلم بأن إصلاح الشعوب بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية الفطرة واستقلالها وعزتها وبين معرفة القيم النبيلة والفضائل الكريمة والعمل بها، وقد كان يقوم بهذه الأعمال العظيمة بتربية الأجيال في العصور السالفة الأنبياء والمرسلون، وإن ما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، وأن بأيدينا كتابا عظيما ومنهجا نبويا قويما، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، والابتعاد عن الانحرافات والغلو وعن الانحراف الأخلاقي والفكري، قال تعالى ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾ (النور : 55). ورقي الأفراد وانحطاطهم له علاقة مباشرة بالقرب والبعد عن هدايات السماء ومنهج الله عز وجل وشرعه وقيمه ورسالته في الحياة.