بوصفها نظاما شاملا في طور التكوين، وقد يكون من حسن طالع الفكر الليبرالي أنه يستخدم سلاح النقد ومنجزات الديمقراطية ، وبصرف النظر عما تكشفه هـذه المقاصد من حقائق، وخصوصا حقيقة تحويل الفكر الديمقراطي إلى أيديولوجيا خادعة ومموهة، فإذا كانت التكنولـوجيا واقـعـا يؤسـس لـحياة جديدة للبشريـة، وستبدو حركة السوق وفقا لهذه السيرورة إيجابية في أذهان الناس، حيث يصبح لعلم التكنولوجيا قوة القانون دائما، ومنها المنظومة الاقتصادية، يمنع توجيه الاتهام إلى انحرافاتها. وعندما يدينون (خلل الشغل) فإنهم [ ص: 185 ] يعنون بذلك الدعوة إلى مزيد من التكنولوجيا للسيطرة على الخلل. ومن هـذا القبيل، يظنون أنهم يحلون المسألة باختراع «برغوث إلكتروني» يتيح ترميز المشاهد المؤذية، [1] فكان ذلك ضروريا لإعادة إنتاج مفاهيم أكثر تطابقا، وصار حاجة يستحيل الاستغناء عنها بيسر. وأكثر من هـذا، وهي تفضي إلى إطلاق شعارات ينبغي لعشاق الحرية الفرار ذعرا من معانيها: مستقبلكم يمر عبر الطريق الفسيحة، لا يكتفي «برون» بتوصيف الألم الناجم عن المشهد العالمي، فكل ما يتحرك في الدنيا وكل ما ينطلق بسرعة يتقدم، وكل ما يتحرك أمر إيجابي، وسيحيق بك الشر الأكبر إذا سبقوك أو تجاوزوك. ولذلك تقوم غالبية المباريات على أساس السرعة، إن عبارة السرعة، فهي تتيح بنقدها سلاحا ناعما وأخلاقيا للاستقواء على عيوبها، ومن المؤكد أن وفرة الخطابات التي نلمحها الآن وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين، هـي علامة أخرى على التعددية التي تميز المشهد النقدي في كل مكان. حيث تتألق أسماء: إدوارد سعيد ، وهي أسماء يكتب أصحابها في العالم الأول مؤكدين حضورهم في هـذا العالم الأول بوصفهم منتمين إلى حضارات وهويات مختلفة، ومدارس فكرية متعددة، يجمعهم التمرد على الخطاب المركزي في أي شكل من أشكال الكتابة، [ ص: 188 ] لقد أسهمت الآلة الإعلامية الرأسمالية في الترويج للعولمة على أساس المزايا التي ستحققها، وراح هـذا الخطاب يروج لها باعتبارها العصا السحرية التي ستمكن دول الجنوب -ومن بينها دول العالم الثالث العربية والإسلامية- من التخلص من المستويات المتدنية لتنميتها، وتصحيح اختلالاتها الهيكلية، والوصول إلى أسواق الدول المتقدمة وولوج الأسواق العالمية، فـضـلا عن صنـاعة العصر من الإلكترونـيـات الحديـثة. وراح هـذا الخطاب يجعل من العولمة طريقا لا مفر منه، وعصا لا بد من التوكؤ عليها لدخول أزمنة القرن الحادي والعشرين. وهكذا اخترقت الآلة الإعلامية للعولمة الممرات الضيقة لكثير من الاقتصادات، على أساس حسابات اقتصادية قصيرة الأجل، ضيقة الأفق، ذات أبعاد [ ص: 189 ] ومكاسب محدودة ومجردة. لا شك أن هـذا الخطاب في الوقت الذي يتكلم فيه عن موجبات الاندماج بالسوق العالمية، تجده صامتا إزاء الاندماج العربي داخل الاقتصاد العربي. إذا كانت بعض الاقتصادات العربية والإسلامية مقننة بموجبات الاندماج بالسوق العالمية على أساس المزايا التي يقدمها هـذا الإنتاج، ألا يكون من الأجدر الاندماج أولا بالسوق العربية، وتحقيق مكاسب الاندماج بالسوق العالمية على أساس عربي جماعي، بدلا من قطري فردي؟ وعليه فإن الخطاب الاقتصادي العربي المعاصر، كما يؤكد على ذلك الباحث د. حميد الجميلي [5] ، مطالب بتحصين المحتوى الاقتصادي العربي لكي يتمكن من بناء أمنه الاقتصادي، قبل الحديث عن موجبات الاندماج بالسوق العالمية. ومطالب كذلك بالحفاظ على سلطة القرار الاقتصادي العربي، ومقاومة السيادة الاقتصادية الغربية، بدلا من التعلق بعالم السيادة الكونية. كما أن هـذا الـخطاب مطالب بعدم الوقوع في فخ العولـمة وما يروجه خطابها من موجبات الاندماج بالسوق العالمية. [ ص: 190 ] ولا من القائلين بإمكانية مواجهتها بالعنف والتمرد، ولست بالطبع من المستسلمين الداعين إلى «ركوب القطار» قبل أن يفوت الأوان، بل أنا من القائلين بضرورة المواجهة الإيجابية لتحديات العولمة. ففي الميدان الاقتصادي - الاجتماعي تتلخص تلك المواجهة الإيجابية في الحفاظ على المصالح الوطنية، ومنع تدهور أوضاع الفئات الفقيرة والمتوسطة. ولتحقيق ذلك لا بد أن تكون بلداننا العربية والإسلامية حرة في تحديد خياراتها الاقتصادية - الاجتماعية، أي أن تكون حرة في تحديد القطاعات الأساسية التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني، وبالتالي أن تحدد هـي، وليس الجهات المقرضة أو المانحة، وليس الشركات متعددة الجنسيات ، ميادين الإنتاج التي لا بد لها من تكثيف رأس المال واستخدام تكنولوجيا متقدمة، اعتمادا على تكنولوجيا أبسط، وهذا لا يكون إلا باتخاذ خطوات حازمة لوقف الفساد والهدر والتمظهر والاستهلاك التفاخري، لتنجح في عملياتها التنموية. هذا من النـاحية الاقتـصادية، وعلى رأس هـذه الأساسيات «حقوق الإنسان» أو «كرامة الإنسان»، من ناحية تقرير المبادئ والقواعد أولا، ومواجهة أي قوي ظلوم غشوم حتى يؤخذ الحق منه. هـو ما كان يقرر الحقوق ويحميها بالنسبة للمرأة وبالنسبة لغير المسلمين. [ ص: 192 ] وصورة الإسلام -كما يذكر أحد الباحثين [7] - في العالم المعاصر إزاء هـؤلاء وتلك، صورة مختلطة ملتبسة مشوهة، نتيجة واقع الـمسلمين وما يسوده أحيانا من تقاليد ليس للإسلام فيها نصيب، ونتيجة غموض بعض الإسلاميين -المتعمد وغير المتعمد- عند عرض موقف الإسلام الصحيح الصريح من هـذا الخليط والمسخ، أو خلط بين المعاملة الحسنة والمساواة في أبعادها المتكاملة من حيث المبادئ والقانون من جهة، والمعاملة الحسنة والمساواة لا يختلطان ولا يلتبسان في العقل المعاصر، فهذا ما جعل الحياة محتملة مقبولة إلى درجة مناسبة مع غياب المساواة. وغياب النوايا الطيبة والنزعة الخيرة، ضيع فعالية النصوص القانونية في لائحة الحقوق «Bill of Rights» في دستور الولايات المتحدة، فاحتاج المستضعفون إلى حركة الحقوق المدنية في أواخر الخمسينيات بعد قرابة قرنين من تقرير تلك الحقوق. وما زالت وقائع إهدار تلك الحقوق، [ ص: 193 ] التي لم ترسخ بعد في أعماق الناس الشعورية وما وراءها والعقلية والأخلاقية، تتوالى في مختلف أرجاء البلاد إلى أيامنا هـذه! وإنما لا بد أن يظاهر الضمير والسلوك الأخلاقي الفردي والاجتماعي النص القانوني الصريح القاطع، ومـعرفة الباطل ومنعه بكل سبيل مشروع. حتى لا يكونوا ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ويقولون ما لا يفعلون، والحق ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11). وهؤلاء لا يرضون عن النزعة الفردية الجامحة ولا عن الاستغلال الرأسمالي غير الإنساني، الذي لا يؤمن إلا بالمنافسة ويغفل عن العاجزين أصلا عن دخول السباق، لا سيما وأنهم قد يكونون مسئولين كأفراد عن حرمان المحرومين. وكثير من انتقادات الديمقراطية في الغرب وممارستها قد صدر عن مصادر غربية، وتبادل السلطة بشكل سلمي، والترشيح، [8] [ ص: 195 ] وثمة قضايا أخرى ذات أهمية كبرى نأمل أن يتبلور الفكر الإسلامي إزاءها في هـذا القرن، بعد أن تطاول الزمن ولم يتحقق بعد المأمول بصورة مقنعة، و«الثابت والـمتغير»، وهناك مفهوم لا بد من توضيحه وهو وعي الغرب، فلا يمكن فهم العولمة دون فهم متقدم للغرب، فنراه استعماريا فقط، أو مدنيا فقط، هـذه النظرة لن تسدي لنا أية خدمة. إن ما نحتاجه الآن هـو أن نقرأ الغرب بتمعن قراءة معرفية، تستكشف الغرب وتجعله واضحا فكريا أمامنا. فإن فهمه واستيعابه هـو ارتقاء في المواجهة. إن مواجهة (الآخر) بالعلم والثقافة، أي المواجهة بالمعنى المعرفي، تؤهلنا لانتقال تلك المواجهة إلى ساحات أرحب، لنطرح أسئلة ذات علاقة بأهم التحديات المباشرة لنا. والذي كنا وما زلنا نحلم به كإنجاز إنساني عالمي. [ ص: 196 ] تعني أن نضع المقولات والمفاهيم موضع النقد والتحليل والتفكيك، من أجل فهمها وإعادة إنتاجها، إنها اللحظة التي ينهض فيها العقل، معلنا استقلاله، وقدرته على تمثيل نفسه، ومنبئا عن انكسار المركزية الأوروبية والرأسمالية الغربية، لقد ولى زمن الانغـلاق بحـجة الـحـفـاظ على الذات والـهويـة، وما زالت التجربة المتمثلة أمامنا تثبت لنا يوما بعد آخر أن المجتمعات كلما انغلقت على نفسها وتجربتها أكثر، كلما كانت مناعتها أضعف. وتتضاعف المشكلة عندما يكون انتقال المعلومة واختراقها للمجتمع يتم بصورة تتجاوز إرادة التعفف من تلقيها، هـي أن الانغلاق على الذات أمر متعذر اليوم نتيجة للتقدم الهائل في تقنية الاتصال، فالمساحات الجغرافية الشاسعة، لم تعد تمثل عائقا أمام معلومة تنطلق من أي مركز مدني في العالم. نتيجة لاحتكاكه المباشر بمنجزات الغرب وثقافته، لم نستطع أن نرسي قاعدة يمكن أن تؤسس لعلاقة متكافئة مع العالم الغربي. فرغم دعوات الحوار المتكررة، إلا أننا ما زلنا مسكونين بأحد هـاجسين: [ ص: 197 ] الانغلاق والانكفاء بما يحرمنا الاستفادة من منجزات العصر، أو الانفتاح الأقرب إلى الذوبان في (الآخر) وتمثل قيمه، وأردنا أن نقرأ الغرب بموضوعية، صحونا على مدونة ضخمة من الشبهات، وتمثل الغرب على المستوى السياسي باعتبارها صك القبول. ووجد المفكر الإسلامي نفسه في موقف الدفاع عن المقدسات الدينية، وعدت تلك من أولويات الفكر الإسلامي. لا سيما التي تتصف بالتشدد من قبل بعض العلماء والكتاب الإسلاميين، ولكن يجب أن نضعها ضمن سياقها الزمني الطبيعي، والانطلاق من رؤية معرفية في قراءة الذات والواقع و(الآخر)، مكان متميز في الخطاب الإسلامي، كما أن الإنصاف لا يسمح لنا بالتنكر لكل إيجابيات الحضارة الغربية، «مع أو ضد»، تلك الثنائيات التي ساهمت إلى حد كبير في إرباك وعينا، لا يتم إلا عبر مشاركة الجميع في تشكيله، وتنتفي منه لغة الفرض وأساليب الهيمنة. هـل يمكن أن تنجح شراكة متوازنة بين المدنية الحديثة والقيم الروحية؟ بالتأكيد ذلك ممكن، وأي رأي يذهب إلى غير ذلك سيحتوي على تشكيك غير مبرر بالقيم الروحية وبالمدنية الحديثة. ومن الجدير بالذكر أننا لسنا ملزمين بوضع الغرب مقياسا ومؤشرا لحركة التقدم كما هـو الحال الآن، بل إن خيارنا كمسلمين ينبغي أن يتركز في «صناعة العالم المبتكر»، والذي لا بد أن ينطلق من نظم معلومات فاعلة وحيوية، نظم تستطيع السيطرة على أداء المجتمع المعاصر بتعقيداته وظواهره المختلفة، أي إعادة النظر في طبيعة علاقتنا مع العلم، وتجديد نظرتنا إلى منظومة القيم الحاكمة. وعلى الرغم من أننا استعرضنا في بحثنا كثيرا من الآثار والتحديات التي تواجه الدول الأقل تطورا من جراء عملية العولمة وتجلياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، إلا أن هـناك من يؤكد على أن العولمة، تحمل في طياتها العديد من الإمكانيات التي تسهم في إحداث الارتقاء والتطور. فالعولمة ما هـي إلا واقع لا بد من الاعتراف بوجوده، وبالتالي تصبح المشكلة: هـل نحن قادرون على مواجهة تحديات هـذه الظاهرة؟ هـل نستطيع الاندماج في نظام العولمة مع التحوط للمخاطر Integration With Dafguards، كما يشير الأمين العام للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا)؟ ومن هـم القادرون على مواجهة تحديات العولمة [10] ؟ [ ص: 201 ]