ونحن راهناً بصدد موجة تعرف زخماً غير مسبوق في الدراسات والأبحاث في هذين المجالين في نوع من حمى جديدة تتجاوز ما عرفته كل من نظرية التحليل النفسي والنظرية السلوكية من حماس وانتشار. ويتفنن العلماء الباحثون والعياديون الممارسون راهناً في رد كل مظاهر الاضطراب النفسي، واعتلال الصحة إما إلى خلل في بعض المورثات أو خلل من نوع ما في كيمياء الدماغ. وبرهانهم على ذلك تلك الاكتشافات الهامة والمتسارعة التي يحققها كل من علم المورثات وعلوم الأعصاب. ويذهب العديد من الكتاب والاختصاصيين إلى حد القول بأن مستقبل الصحة النفسية والمرض النفسي، أي أن الصحة النفسية ستصبح شأناً بيولوجياً بشكل متسارع سواء على مستوى الأسباب، أم على صعيد العلاج. وعليه سنعرض بإيجاز في هذا القسم للمعطيات العامة المتداولة راهناً والتي تلقي الضوء على الرصيد البيولوجي. ومعطيات علم النفس العصبي العيادي الذي يقسم بدوره إلى كيمياء الدماغ، 1 - الصحة النفسية وعلم المورثات : يشكل علم المورثات genetics وهندستها أحد أبرز الثورات العلمية في نهاية القرن بالتوازي مع ثورة المعلوماتية والاتصال. وتتسابق مراكز البحث المتخصصة في الدول المتقدمة في إحراز فتوحات في هذا المجال نظراً لما يمكن أن توفره من تيم 89 الصحة النفسية ما بين الصحة البيولوجيا والسسيولوجيا إنجازات في الطب والغذاء ومحاربة الآفات وتخليق أنواع مطورة من النبات والحيوان وحل مشكلات مستعصية في علاج الأمراض. بل يتجاوزه إلى الانخراط في مشروعات وطنية طموحة تتمثل في رسم خريطة الرصيد الجيني للإنسان Maping the Genome التي تعني تحديد موقع كل واحد من ماية ألف المورث البشري على الصبغيات الـ 46. وحين يتم ذلك يمكن عندها التعرف على دور وتأثير كل مورث، وعلاج هذا الاختلال من خلال تصحيح تتابع هذه العصيات التي تمثل أحرف الـ DNA البشري التي تبلغ 3 مليارات أبرزها المشروع الأميركي الذي خصص له 3 مليارات دولار القراءة الخريطة الوراثية والتسلسل الوراثي والذي انطلق في العام 89، من خلال معرفة محتوى هذا الشريط المدهش الذي يطلق عليه اسم DNA ويتعدى الأمر مسألة المعرفة العلمية المحضة، فيها الذكاء، من ذلك نرى مدى الصلة الراهنة ما بين الصحة النفسية وعلم المورثات. وهذا ما حدا بأحد أساتذة علم النفس البارزين إلى القول : لقد تغير الحال كثيراً في علم النفس في أيامنا . وتحتوي كل مورثة على ما يتراوح ما بين 1000 و 2 مليون عصية أو حرف وراثي Nucleotides. وهو ما يشكل البصمة الوراثية الفريدة الخاصة بكل شخص، . ذلك أن تتابع العصيات أو الحروف في هذه المورثة هو الذي يرشدها إلى كيفية نموها إلى عضو معين . . بل هي تتكيف في نشاطها تبعاً لخصائص البيئة الخلوية . فكلما اقتربت المورثات من بعضها البعض على صبغية واحدة زاد تجمعها وتعزز تأثيرها . على العكس من بعض الخصائص البيولوجية التي قد تتحدد بمورثة واحدة. ويتوقف التأثير على نوع التتابع . ص 99). - رغم أهمية معرفة العلاقة بين المورثة والسمة التي تنتجها، وعليه فإنه من كحول ومخدرات فيروسات، إلخ. ؛ الطفرات والأخطاء على مستوى التتابع الجيني حيث تتحرك بعض الجينات في الصبغيات، مما يؤدي إلى تغيير التركيبية الجينية القاعدية . يتضح من ذلك كله مقدار تقدم المعرفة في علم المورثات عما كان عليه الحال في الدراسات الوراثية تبعاً لقوانين مندل. كما يتضح في الآن عينه مقدار المجهول الذي لا زال يتعين جلاؤه وصولاً إلى المعرفة الموثوقة في الموضوع. وبالتالي يتضح مقدار التعقيد الذي يحيط بالعلاقة ما بين الصحة النفسية وأبحاث علم المورثات، مما يتعين التوقف عنده . 2 - الجينات والاضطرابات النفسية : هناك ورشة كبرى من الدراسات الجينية في العديد من الجامعات الأميركية وفي معهد الصحة الوطني الأميركي في محاولة لاكتشاف المورثات المسؤولة عن مرض التوحد Autism. ومنها ما وجد مورثة معينة ترتبط بالتوحد في %50% من الحالات، ومنها ما اعتقد أنه وضع اليد على مورثة معينة ولكن لا يعرف كيفية فعلها - أجريت عدة أبحاث بقيادة دافيد بول من جامعة ييل على عينة من 94 شخصاً من عائلات تعاني من صعوبات نطق. واحدة على الصبغية 15 خاصة بالقدرة على قراءة الكلمات المفردة، Vol 28 No 5( بين تجمع من المورثات مع الموصل العصبي Gaba ذي الصلة بمشكلة الاعتماد على الكحول وتحمله. إلا أنهما أشارا أن ذلك لا يشكل سوى شطر صغير من أحجية الكحول المعقدة. لخص آزار بعض الدراسات الجينية AZARA99Vol 28 الخاصة بالتعلم الشرطي مبيناً أن هناك عدة مراحل في ترسيخه في الذاكرة طويلة المدى في كل مرحلة منها تتدخل بعض المورثات بشكل متتابع في عملية كلية. بما فيها الشخصية الذكاء ، وبدون احتمال تلاقيها مطلقاً، WESTEN, 1999, إلا أن هناك من جادل بأن الأمر يتوقف على مدى وحدة خصائص البيئة في العينة المدروسة. فإذا أخذنا عينة ذات خصائص بيئية متقاربة برزت آثار الوراثة في التباين بين الأفراد. بينما إذا أخذنا عينة متباينة ومتنوعة بيئياً بما يكفي برز وزن البيئة بوضوح . خلاصة القول إنه بعد الحماس المفرط للدراسات الجينية، مما تتدخل فيه الجينات بالضرورة وبحكم التكوين الحيوي) أصبح علماء النفس أقل اهتماماً بتجزئة Parceling الدور النسبي لكل من الوراثة والبيئة، ويقول هذا العالم إن فهم الإنسان يتطلب الاهتمام بتكوينه البيولوجي وخبراته النفسية وإطاره الثقافي.