إن السعادة التي ينشدها الغزالي تقوم على أساس الفطرة المستمدة من تعاليم الإسلام ونظرته للإنسان وجبلته التي جبل عليها. ومعلوم أن الإسلام ينظر إلى الإنسان من جميع جوانبه الروحية والجسدية والمادية والمعنوية. ولذا فليس غريباً على عالم مسلم كالغزالي أن يحسب لكل جانب حسابه وأن يكون له موقف واضح ممن غالوا في الجري وراء السعادة البشرية في الكمالات الروحية على حساب الغرائز الجسدية. فهو يرى أن هذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة فلو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك . وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط (1) .وكذلك كان موقف الغزالي واضحاً ممن رسوا أو سعوا لأن تكون سعادة الإنسان في المال أو اللذة والشهوة على حساب الجانب المعنوي. فهو يرى أن أعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فيها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار (۲) وأن البطن في نظره ينبوع الشهوات ومنبت. الأدواء والآفات (1) وتتبع شهوة البطن شهوة الفرج وشـدة الـشـبـق إلـى المنكوحات، ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال الذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات .وبهذا يبين الغزالي خطر الإخلال بالرغبات الفطرية عند الإنسان لما لذلك من تأثير على السعادة الإنسانية التي ترتبط ارتباطا معتدلا بكل من الجانب الروحي والمادي عند الإنسان. وبناء عليه فلقد جهد لنفسه أن تجمع رسالته التربوية بين تأديب النفس وتقوية الجسم وتصفية الروح وتثقيف العقل بحيث تعنى بكافة مجالات التربية : العقلية والأخلاقية والروحية والنفسية والجسمية والاجتماعية دون التضحية بأي منها عى حساب الآخر .ولبلوغ الهدف الأسمى الذي رسمه الغزالي وهو السعادة والقرب من الله تعالى كان لا بد من الارتقاء لمستوى الكمال الإنساني من خلال بناء الشخصية الإسلامية المتميزة من كافة جوانبها المادية والمعنوية والغزالي يقوم بذلك إيماناً منه بأن التربية الإسلامية قد أعطت لتربية الروح والنفس القدر نفسه من الاهتمام الذي أولته لتربية العقل والجسم. لذا فالتربية عند الغزالي تعكس توجهاته وقناعته بأهمية تفتيح شخصية الفرد وتنمية جوانبها المختلفة في الاتجاه المرغوب فيه للمجتمع الإسلامي لأن من استعمل جميع أعضائه وقواه على وجه الاستعانة بها على العلم والعمل فقد تشبه بالملائكة . ومن صرف همته إلى اتباع اللذاتالبدنية يأكل كما تأكل الأنعام فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم» (۳). اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان . وهو الذي أراده الله تعالى بقوله قُل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (۱) وهو أمر عجيب تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقیقته (۲) إنها المهيمن الأكبر على حياة الإنسان. إنها الموجه إلى النور. لا تعرف البدء والنهاية. لا تعرف الفناء . هي وحدها التي تملك الاتصال بالخلود الأبدي والوجود الأزلي. تملك الاتصال بالله. كما أنها هي التي تملك الاتصال بالوجود كله من وراء حواجز الزمان والمكان» (٤) .والتربية الروحية تجهد في تنمية وتثبيت الوازع الديني والعقيدة الدينية إلى جانب ممارسة الفضائل والشعائر الدينية بعيداً عن التصلب والجمود والاتكالية مع مراعاة التكامل بين الأديان على أساس العمل الصالح والإخلاص وأداء الواجب والإنتاج المثمر وإنكار الذات .ويرى الغزالي أن «أشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله. فيه كمال الإنسان وفي كماله سعادته وصلاحه الجوار حضرة الجلال والكمال (٥) ولذلك ليس غريباً أن تتصدر التربية الروحية اهتماماته في سعيه لبناء الشخصية الإسلامية المتكاملة من خلال تكريس منهج الإسلام في التربية حيث أن طريقة. الإسلام في تربية الروح هي أن يعقد صلة دائمة بينها وبين الله في كل لحظة وكل عمل وكل فكرة وكل شعور » (۱) . ومعلوم أن التكوين الروحي للإنسان قد ميز الإنسان بدوافع معينة كان لزاماً على التربية الاهتمام بها وتعميقها وتوجيهها في مسارها الصحيح فنزعة التدين نزعة فطرية في الإنسان»(٢).يقول تعالى : ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (۳) وهذا ما أدركه الغزالي واعتبره ميزة شرف وفضيلة للإنسان: «أما بعد :فشرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه،لذا فإن الروح الإنسانية تدرك بفطرتها وجود الله وتؤمن بوحدانيته ولكنها لا تخلص في عبادته وتسبيحه إلا عندما تتحرر من شهوات الجسم وضغوط رغبات النفس والهوى (٥) .فالقلب الذي هو بمعنى الروح في هذا المقام هو العالم بالله وهو المتقرب إلى الله وهو العامل لله وهو الساعي إلى الله وهو المكاشف بما عند الله ولديه . . . فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله . وهو الذي إذا جهله الإنسان قد جهل نفسه وإذا جهل نفسه فقد جهل ربه ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل . ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصد لما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه فهو ممن قال الله تعالى فيه (٦) نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَهُمْ أَنفُسَهُمْأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (۷) . ويعكس كلام الغزالي أهمية التربية الروحية وأثر ذلك في بناء الشخصية الإسلامية القادرة على تحديد أهدافها من خلال عبادة الله تعالى والإيمان بعقيدة التوحيد خاصة وأن عقيدة الأنبياء واحدة وأنهم جميعاً يدعون إلى توحيد الله تعالى، وتنزيهه عن كل ما يغايره ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً) (۱) . وبهذا ومن خلاله يمكن للإنسان المسلم أن يتجنب القلق والصراع الذي يعيشه غيره من بني البشر الذين عجزوا عن تحديد أهدافهم والتعرف على بارئهم عبر مسيرتهم في هذه الحياة .فالتربية الروحية عند الغزالي تقوم على مبدأين :المبدأ الأول هو الإيمان بالله واليوم الآخر لأنه من أهم القوى المؤثرة في حياة الفرد والمجتمع وهذا الإيمان وحده ينبعث عنه أكمل الصفات الإنسانية والاجتماعية من الإيثار والتضحية والحب والرحمة وإسداء الجميل والتعاون على البر والتقوى واحتمال مشاق الجهاد والبذل في سبيل الحق والخير وإقرار المثل العليا في أرض الله» (٢) .ولقد شكل الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره السبب الحقيقي لانتصار أسلافنا المسلمين على أعدائهم . ولم تكن تلك الفتوحات الإسلامية المذهلة معجزة من المعجزات ولا خارقة من خوارق العادات، وإنما كانت نوع من سنن الله الكونية التي جعلها في متناول الناس وفي طوقهم وقدرتهم. إنها نتيجة طبيعية لاستنجاد الأمة بربها ومن نجدة ربها لها أنه نتيجة لسلوك هذه الأمة التي آمنت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا وقائداً وزعيماً إنه نتيجة لذلك الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب وبهذه العقيدة الصادقة انتصروا وتعلموا وصنعوا واخترعوا وأثروا التاريخ. ونقطة البدء في كل حضارة هي العقيدة هي القيم الموجهة للجماهير، هي الأفكار التي توجدسلوك قيادتها» (۳) . ولهذه الأسباب وغيرها يصر الإمام الغزالي في رسالته التربوية على العقيدة ووجوب تعليمها فيقول اعلم أن أول ما ذكرناه في ترجمة العقيد ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه حفظاً ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئاً فشيئاً. فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد و الإيقان والتصديق به وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان»(۱).أما المبدأ الثاني للتربية الروحية فيقوم على الالتزام بآداب الإسلام وأداء فرائضه والتمسك بأحكامه لأن الإسلام نظام شامل لكافة مجالات الحياة. ولقد شرع الإسلام نظما وفرائض تعاون على تثبيت العقيدة وتركيزها في حال توفرت التربية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله لذلك على المتعلم أن يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره وقراءة الحديث ومعانيه. ويشتغل بوظائف العبادات فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخاً بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها وبما يسري إليه من مشاهدة الصالحين ومجالستهم . فيكون أول التلقين كإلقاء بذر في الصدر وتكون هذه الأسباب كالسقي والتربية له حتى ينمو ذلك البذر ويقوى ويرتفع شجرة طيبة راسخة اصلها ثابت وفرعها في السماء» (٢) .- التربية العقليةيشير الغزالي إلى أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته بحيث أنه يطلق على معان مختلفة مما تسبب باختلافهم والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل إسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان (۳) والمعنى المتعلق بموضوع البحث هو الأول، ولقد عرفه الغزالي على أنه الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية. وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل: إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء. ولم ينصف من أنكر هذا» (1) .وللعقل شرف ومكانة في الإسلام ولقد سماه الله نورا» (۲) لقوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوة ﴾ (۳) وسمى العلم المستفاد منه روحا ووحـيـا (٤) لقوله تعالى : ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (٥) وقال تعالى : ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (1) .والمتتبع نظرية المعرفة عند الغزالي يرى أنه لم يستقر على موقف ثابت من العقل فلقد كان قصده من نظرية المعرفة الحد من قيمة العقل الذي كانت تعتد به تلك المذاهب - أي المذاهب الفلسفية المنافية للدين - في سبيل الحاقه بالشرع في بعض مجالات التفكير المعينة» (۹) .وتوصل الغزالي بعد شكه إلى اليقين بعد أن منّ الله عليه بنوره وفي ذلك يقول حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية . فاعضل هذا الداء ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال. ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثوقا بها، على أمن ويقين. ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل نور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف .