عبادة الأحرار)سألتني أن أكتب لك شيئًا عن هذه الكلمة المعذبة: (الصيام) فقد ضرب عليها الناس من الحكم، وصبوا عليها من الفوائد ما لو تأملته لم يَعْدُ أن يكون عرضًا طفيفًا من أعراض التجارب التي تمرُّ بالصائم، ولرأيتهم يبنون فوائدهم وحكمهم على غير منطق، كالذي يزعمونه من أن الغنيَّ إذا جاع في صيامه أحسَّ، بل عرف كيف تكون لذعة الجوع على جوف الفقير، فهو عندئذ أسرع شيء إلى الجود بماله وبطعامه.ثم يزعمون أن الفقير الصائم إذا عرف أنه استوى هو والغني في الجوع قنع واطمأنت نفسه، أم من حبه للمساواة في أي شيء كانت، وعلى أي صورة جاءت! ولا تزال تسمع مثل هذه الحكم، وليعيش الغني، كلاهما في سلطان معدته جائعًا وشبعان. وجعل بأسهم بينهم، وتتابعوا في الخطأ بعد الخطأ، تستبدُّ بهم الطغاة، ومن أبناء الذل والمسكنة،وكل نكيرهم أصوات تضجُ، فذلُّوا حتى أماتهم الذلُّ، لعزُّوا به في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ولكنا نسينا الله فأنسانا أنفسنا، ونبذله لنواسي فقيرنا، ونجتمع عليه لتأتلف قلوبنا، ولا يواسى فقير، ولا تأتلف قلوب وإذا تمَّ بعض ذلك فسرعان ما يزول بزوال الشهر، وتنتهي آثاره في النفس وفي البدن وفي المجتمع.ولو أنصفنا هذه الكلمة المظلومة المعذبة لرأينا الصيام كما كتب على أهل هذا الدين طاعة خالصة بين العبد وربه، يأتيها الفقير الهالك ابتغاء رضوان الله، ويأتيانها فرادى في غير شهر رمضان، لا ليعيشا في معاني المعدة بالبذل أو بالحرمان، بل ليخرجا معا سواء عن سلطان الطعام والشراب، وليخرجا معا سواء من سلطان الشهوات، بل ليخرجا معًا سواء من سلطان كل نقيصة: من سلطان الخوف، فلا يعمل إلا لله.وليس بين الصائم وبين ربِّه أحد، أو حاجات البدن، أو داعيات الغرائز أو نزوات العقول.فتأمَّل معنى الصيام من حيث نظرت إليه: هو عتق النفس الإنسانية من كل رقٍّ: من رقِّ الحياة ومطالبها ومن رقِّ الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رقِّ النفس وشهواتها، ومن رقِّ العقول ونوازعها، وحرية العمل.فتحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضًا وتأتيه تطوعًا، ولتعمل فيها بالحق، لأنها أعزُّ سلطانًا منها. فلا رياء فيه؛ لأنه جُرِّد لله فلا يراد به إلا وجه الله، فهو الذي يقبله عن عبده، وهو الذي يجزي به كما يشاء.وقد دلَّنا الله سبحانه على طرف من هذا المعنى إذ جعل الصيام معادلًا لتحرير الرقبة في ثلاثة أحكام من كتابه:إذ جعل على من قتل مؤمنًا خطأ تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92].وجعل على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا تحرير رقبة من قبل أن يتماسا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4].وجعل كفارة اليمين تحرير رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196].فانظر لِمَ كتب الله على من ارتكب شيئًا من هذه الخطايا الثلاث: أن يحرر رقبة مؤمنة من رقِّ الاستعباد، ورقِّ شهوات النفس، فالصيام كما ترى هو عبادة الأحرار، وهو تهذيب الأحرار وهو ثقافة الأحرار. ومقاليد الحرية، وأنف لدينه ولنفسه أن تكون حكمة صيامه متعلقة بالأحشاء والأمعاء والبطون في بذل طعام أو حرمان من طعام- لرأينا الأرض المسلمة لا يكاد يستقرُّ فيها ظلم؛ بطش النفوس التي لا تخشى إلا الله، ولا يملك رقَّها إلا خالق السموات والأرض وما بينهما. وتستطيع أن تجوع وتعرَى، وأن تتألم وتتوجع صابرة صادقة مهاجرة في سبيل الحقِّ الأعلى، وفي سبيل الحرية التي ثقفها بها صيامها، وفي سبيل إعتاق الملايين المستعبدة في الأرض بغير حق وبغير سلطان.واستطاع كل مسلم أن يكون صرخة في الأرض تلهب القلوب، وتدعوها إلى خلع كل شرك يقود إليه الخوف من الظلم، ويفضل إليه حب الحياة وحب الترف وحب النعمة، وهي أعوان الاستعمار على الناس.ويوم يعرف المسلمون صيامهم حق معرفته، ويوم يجعلونه مدرسة لتحرير نفوسهم من كل ضرورة وكل نقيصة، الطالبة لما عند ربها من كرامته، التي كرَّم بها بني آدم، إذ خلقهم في الدنيا سواء أحرار، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وفعل الخيرات.ويومئذ ينصرهم على عدوهم،ــــــــــــــــــ