الاعتذاريات الصهيونية:والسمات الخاصة بالجيب الصهيوني ليست أمرا مـتـصـلا بـجـذوره أو بخصائصه ا�وضوعية فحسب� بل إن خصوصيته لتعبر عن نفسها� ور�ا بطريقة أكثر وضوحا� في الاعتذارات الصهيونية� وفي الطريقة التي يسوغ بها الصهاينة الحقوق ا�زعومة التي خلعوها على أنفسهم. وقد قال الكاتب آموس كينان: »إن تفرد الصهيونية لا يقع في استصلاح الصـحـاري� وإ�ـا في الكذبة الحلوة التي تـصـحـب تـلـك الـعـمـلـيـة« )٢٦(. ولكن لنـبـدأ بـعـرض الاعتذاريات الصهيونية الاستعمارية العامة� أي الاعتذاريات التي لا تصدر من منطلق أو تسويغ صهيوني خاص� وإ�ا تصدر من منطلـق اسـتـعـمـاري عام� ثم نتناول بعد ذلك الاعتذاريات الخاصة والقاصرة علـى الاسـتـعـمـارقامت الجيوب الاستيطانية بتقد� اعتذاريات مفصلة لتسويغ وجودها الشاذ في كل من آسيا وأفريقيا. وفي بعض و�ا سكاني غربي أجنبي في قارتي أفريقيا واسيا� وقد وصف اللورد بلفور عملية الاستعمار الاستيطاني بأنها تعبير عن »حقوق وامتيازات الأجناس الأوروبية« واعتبر عدم ا�ساواة ب� الأجناس حقيقة تاريخيـة واضـحـة)٢٧(. أما ريتشارد كروسمان� فـكـان يرى أن الاستعمار الاستيطاني الأوروبي يصدر من منطلق حق الرجل الأبيض في جلب الحضارة إلى »السكان الأقل تحضرا في آسيا وأفريقيا� وذلك عن طريق الاحتلال الفعلي للقارت�� حتى لو أدى ذلك إلى إبادة السكان الأصلي�« )٢٨(� ولا شك أنها طريقة غريبة ومدهشة أن تدخل الحضـارة إلـى شـعـب عن طريق إبادته. أما ماكس نوردو فـقـد اقـتـرح� حـتـى قـبـل تـبـنـيـه لـلـرؤيـة الصهيونية� و�شيا مع نظرتـه الـعـنـصـريـة الاسـتـعـمـاريـة� تـوطـ� الـعـمـال الأوروبي� العاطل�� ليحلو عل »الأجناس الدنيا« التي لا تستـطـيـع الـبـقـاء هذا وقد قدم الزعيم وا�فكر النازي ألفريد روزنبرج حجة �اثلة لإثباتبرائه� خلال محاكمته في نورمبرج� مؤكدا للقضاة العلاقـة الـعـضـويـة بـ� العنصرية والاستعمار. إذ أشار إلى أنه عثر على لفظ »سوبرمان« لأول مرة في كتاب عن حياة اللورد كتشنر� الرجل »الذي قهر العالم«. وب� روزنبرج أيضا أنه صادف عبارة »العنصر السيد« أو »العنصر ا�تفوق« في مؤلفـات عالم الأجناس الأمريكي ماديسون جرانت والعالم الفرنسي لابوج. ثم أشار أخيرا إلى أن هذا الضرب من التفكير الانثروبولوجي ليس سوى اكتشـاف بيولوجي جاء في ختام أبحاث دامت ٤٠٠ عام )٣٠(� أي أن النظرية العنصرية� ونظريات التفوق العرقي� هي جزء أصيل من فكر الحضارة الغربية الحديثة� ومـع ازديـاد الحـاجـة إلـى الأســواق والأراضــي� وازديــاد حــدة الأزمــاتالاقتصادية والد�وجرافية في أوروبا� ازدادت النظريات العنـصـريـة حـدة وعمقا. وقد ب� مؤلف مدخل »العنصرية« في دائرة ا�عارف البريطانية أنه ليس من قبيل ا�صادفة »أن العـنـصـريـة ازدهـرت فـي وقـت حـدوث الـوجـه الثانية الكبيرة من التوسع الأوروبي والتكالب على أفريقيا«. )٣١( وكما بيناالأيديولوجية الصهيونيةالإستعمار الصهيونيمن قبل� حاول الصهاينة التعلق بذيل الاستعـمـار دائـمـا� فـلـيـس غـريـبـا أن نجدهم ينتسبون إلى الجنس الأبيض� حتى يتمكنوا من ا�شاركة في ا�زايا والحقوق التي منحها الرجل الأبيض لنفسه� وحتى يساهموا في حمل عبئه الخماري الثقيل. فنجد أن عالم الاجتماع الصهـيـونـي )آرثـر روبـ� )١٨٧٦- ١٩٤٣(� يؤيد في دراستـه يـهـود الـيـوم الـنـظـريـة الـتـي تـؤكـد مـواطـن الـشـبـه الجسماني ب� الجنس اليهودي وأجناس آسيا الصغرى� ولا سيما الأرمن ; إذ إنه يفضل-على حد قوله-أن يرى اليهود أعضاء في »الجنس الأبيض«� و يرحب بأية محاولات نظرية ترمي إلى »توجيه الضربات للنظرية السامية« )أي انتساب اليهود للعرق السامي أو الحضارة السامية()٣٢(. ويرى روب� أن الاختلاف العنصري ب� اليهود الأوروبي� ليس كبيرا إلـى درجـة تـؤديإلى التشاؤم من ثمار الزواج اﻟﻤﺨتلط ب� أعضاء الجنس� )٣٣(. وثمة اتجاه في التفكير الصهيوني يقصـر لـفـظ »يـهـودي« عـلـى الـيـهـود البيض وحدهم� أي الاشكناز. وقد أفصح روب� عن هذه الفكرة بصراحة بالغة في كتابه الآنف الذكر� حيث يناقش أثر الحركة الصهيونية على وعي كثير من »اليهود الغربي�«� وكيف أن محاولات الاستيطان الصهيونية كانت تستهدف-أساسا-تجنيد اليهود الأوروبي�� لا اليهود الشرقي�� على الرغم من أن »تجنيد وتوط� اليهود الشرقي� )من اليمن والغرب وحلب )سوريا(والقوقاز( في ا�ستعمرات الزراعية كان أكثر سهولة ويسرا« )٣٤(. ولكن على الرغم من أن اﻟﻤﺨطط الصهيـونـي الـواعـي اسـتـبـعـد الـيـهـود الشرقي�� فإنهم� مع هذا� قد »تسربـوا إلـى فـلـسـطـ� فـعـلا«� وهـو الأمـر الذي لم يجد عنده القبول أو الرضا ; لأن »الوضع الروحي والثقافي لهؤلاء اليهود كان منخفضا إلى حد أن اﻟﻤﺠرة الجماعية لا بد أن تؤدي إلى خفض ا�ستوى لحضاري العام لليهود ]الأشكناز[ في فلسط�� وستؤدي إلى نتائج سلبيا كثيـرة«. )٣٥( )وبعد مضي نصف قرن ردد أبا إيبان الكلمات نفسـهـا وقد ذكر روب� قارئه بأن الاشكناز� بسبب طبيعة حياتـهـم فـي أوروبـا�وبسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له� قد اجتازوا »عملية طويلة من الاختيار« وصراعا مريرا من أجل الحياة� وهو صراع »لا يستطيع البـقـاء فـيـه سـوى الأكثر ذكاء والأكثر قوة«. ولذلك �ت المحافظة على »ا�واهب الـعـنـصـريـةالطبيعية العظيمة« التي يتمتع بها اليهود بل وتقويتها. وقد ساهمت عوامل أخرى أيضا في تصفية غير ا�وهوب�� وفي الإبقاء على »الأكثر مـوهـبـة«� الأمر الذي شكل ضمانا أكيدا على »التقدم الفكري للجنس« اليهودي. وبعد ذلك نبه روب� قارئه إلى الحقيقة القائلة بأن عملية الاختيار العنيفة هذه� التي تتم-أساسا-عن طريق الاضطهاد والعزل )أي الجـيـتـو(� لا تـنـطـبـق إلا على الأشكناز وحدهم ; ولذلك� وعلى الـرغـم مـن اشـتـراكـهـم فـي الجـذور العرقية مع السفارد� فإن الصراع من أجل البقاء أدى إلى تفوق الأشـكـنـاز »في النشاط والذكاء وا�قدرة العلمية على السفارد وعلى اليهود العرب«.٣٦( لكل ما تقدم� يرى روب� أن الحقوق التي يدعيها الرجل الأبيض لنفسه لا تنطبق على السفارد� وإ�ا تنطبق على الأشكناز وحدهم� فهم وحـدهـم القادرون على حماية عبء الرجل الأبيض� وعلى اغتصاب آسيا وأفريقـيـا )ولا �كن للسفارد أن يحظوا بهذا الشرف الحضاري� إلا بسبب الضرورة الاقتصادية ا�لحة� كأن يسمح لهم بالاستيطان في الجيب الصهيوني لأداء بعض الأعمال الشاقة التي يقوم بها العرب� وبالأجر نفسه الذي يتقاضـاهالعرب� وعلى شرط أن يأتوا في أعداد صغيرة(. )٣٧( إن هذه الرؤية للمستعمر الصهيوني� بوصفـه رجـلا أبـيـض� مـوضـوعـةأساسية في الاعتذاريات الصهيونية� فتوردور هرتزل كان يؤمن� �ام الإ�ان� بتفوق الرجل الأبيض� وكان مدركا� �ام الإدراك� لـضـرورة الـتـنـسـيـق بـ� الخطة الصهيونية الاستعمارية وا�شروعات الاستعمارية ا�ماثلة� حـتـى لا تتعارض الحقوق اﻟﻤﺨتلفة »للبيض«. ولذلك قرر الزعيم الصهيوني� قبل أن يجتمع بتشامبرل�� أن من الضروري� قبل مناقشة الخطة الصهيونيـة� أن يب� لوزير ا�ستعمرات البريطاني أن هناك »بقعة ما في ا�متلكات الإنجليزية ليس بها حتى الآن أناس بيـض« )٣٨(. وقد ب� الروائي الإنجليزي وا�فكـر الـصـهـيـونـي إسـرائـيـل زانجـويـل )١٨٦٤-١٩٢٦( فـي خـطـاب لـه أمـام ا�ـؤ�ـر الصهيوني السادس )١٩٠٣( أن الاستيطان الصهيوني في شرق أفريقيا سيكون وسيلة �ضاعفة »عدد السكان البيض« التابع� بريطانيا هناك. )٣٩( )ولكن يبدو أن ا�ستوطن� البيض هناك لم يقبلوا تعريف اليهودي على أنه رجـلأبيض� لأنهم عارضوا الاستيطان الصهيوني(. وقد حاول الصهاينة تسريع الاستعمار الصهيونـي بـالـرجـوع إلـى فـكـرةالأيديولوجية الصهيونيةالإستعمار الصهيونيالتفوق الحضاري الغربي� وانطلاقا من هـذا الـتـصـور تحـدث هـرتـزل عـن الإمبريالية على أنها نشاط نبيل� الهدف منه جلب الحضارة إلى الأجناس الأخرى� التي تعيش في ظلام البدائية والجهل )٤٠(. وقد كان هرلزل ينظر إلى مشروعه الصهيوني من خلال ذلك ا�نظار الغربـي� حـ� كـتـب رسـالـة إلى دوق بادن يؤكد له فيها أن اليهود عندما يعودون إلى »وطنهم التاريخي«� وإنهم سيفعلون ذلك بصفتهم »�ثل� للحضارة الغربية«� وأنهم سيجلبـون معهم »النظافة والنظام والعادات الغربية الراسخة إلـى هـذا الـركـن ا�ـوبـؤ والبالي من الشرق« وسيقوم الصهاينة� بصفتهم من ا�ؤيـديـن ا�ـتـحـمـسـ� للتقدم الغربي� �د خطوط السكك الحديدية في آسيا التي تعد الـطـريـق البري للشعوب ا�تحضرة. )٤١( ولقد أكد هرتزل أن الدولة اليهودية ستكون »جزءا من حائط يحمي أوروبا في آسيا� ويكون حصنا منيعا للحضارة في وتؤكد كثير من تصريحات الصهاينة أنهـم لا يـعـتـبـرون أنـفـسـهـم كـيـانـاعنصريا منفصلا فحسب� بل يعتبرون أنفسهم أيضا أعـضـاء فـي الجـنـس الأبيض. ففي كتاب بعث إسرائيل ومصيرها ب� بن جوريون عددا من أوجه التشابه ب� الصهاينة وغيرهم من ا�ستعمرين البيض. وفي عام ١٩١٧ كتب الزعيم الصهـيـونـي مـقـالا تحـت عـنـوان فـي »يـهـودا والخـلـيـل« وصـف فـيـه ا�ستوطن� الصهاينة في فلسـطـ� لا بـوصـفـهـم عـامـلـ� فـي هـذه الأرض فحسب� بل على أنهم غزاة لها »لقد كنا جماعة من الفاتح�«. وفي مقال آخر بعنوان »الحصـول عـلـى وطـن قـومـي« كـتـبـه عـام �١٩١٥ قارن بـن جوريون ب� الاستيطان الصهيوني والاستيطان الأمريكي في العالم الجديد� مستحضرا صورة ا�عارك العنيفة »التي خاضها ا�ستوطـنـون الأمـريـكـيـون ضد الطبيعة الوحشية� وضد الهنود الحمر الأكثر وحشية«. )٤٤( و�ا لـه مغزاه أنه ساوى ب� الطبيعة والهنود� بل وضعهم في مرتبة أدنى إذ هم أكثر وحشية منها. هذه ا�ساواة تؤدي إلى تجريد الإنسان وتحويـلـه إلـى مـجـرد جزء من دورات الطبيعة� الأمر الذي يجعل إبادته أو نقله أمرا مقبولا� بـل مرغوبا. أما وايزمان فقد فضل� في كتاب المحاولة والخطأ� أن يقارن ب� ا�ستوطن� الصهاينة من جهة وا�ستوطن� الفرنسي� في تونس وا�ستوطن� البريطاني� في كندا واستراليا من جهة أخرى. )٤٥( كما أظهر أيضا تعاطفاملحوظا إزاء ا�ستوطن� البيض في جنوب أفريقيا. )٤٦( ونفس الاتجاه العنصري� الذي يسوغ الاستعمار والعنف والإبادة باسـمالتقدم� يتضح في مذكرة بعـث بـهـا وايـزمـان إلـى الـرئـيـس تـرومـان فـي ٢٧ نوفمـبـر �١٩٤٧ يشرح له فيها أن اﻟﻤﺠتمع الصهـيـونـي فـي فـلـسـطـ� يـضـم- أساسا-فلاح� متعلم� وطبقة صناعية ماهرة تعيش على مستوى عال� ثم قارن ب� هذه الصورة »ا�شرقة« والصورة الكئيبة للمجتمعات الأمية الفقيرة )في فلسطـ�()٤٧(. وبطبيعة الحال لم يحاول وايزمان أن يشـرح لـلـرئـيـس الأمريكي السبب الكامن وراء هـذا الـوضـع� ولا الـسـبـب الخـفـي وراء عـدم بزوغ فجر الحضارة بعد خمس� عاما من الاستعمار البريطاني والصهيوني.ولكن على الرغم من شيوع أسطورة اليهودي الأبيض وحقه في استعمارفلسط� فإنها لا تحتل مركـز الـصـدارة فـي ا�ـصـطـلـح الـصـهـيـونـي; إذ أن الاعتذاريات الصهيونية تستند بصفة جوهرية إلى فكرة اليهودي الخالص )التي سنعرض بالتفصيل في الفصل الثامن(. واليهودي الخالص غير مرتبط بأي جنس أو حضارة� شرقية كانـت أو غـربـيـة� إذ أن الـيـهـود حـسـب هـذا التصور يشكلون جنسا مستقلا أو أمة مستقلة� وليسوا مجـرد سـلالـة مـن سلالات الجنس الأبيض أو الخمارة الغربية. وفكرة اليهودي الخالص� مثل فكرة الرجل الأبيض ا�تفوق� �نح اليهود حقوقا معينة مقدسة وخالـدة لا تتأثر بأية اعتبارات أو مطالب تاريخية. ولا �كن حتى للفلسطيني� أنفسهم أن يكون لهم حقوق أقوى أو حتى �اثلة لحقوق اليهود في فلسط�. ويتضح هذا التصور في كلمات الحاخام ج. ل. هاكوه� فيشمان ميمون� أول وزير للشئون الدينية في إسرائيـل� الـذي أكـد أن الـصـلـة بـ� الـشـعـب الـيـهـودي وأرضه مقدسة أو هي سر من الأسرار الدينية.سماوية وأبدية«. )٤٨( وفـي مـجـال الـدفـاع عـن هـذه الأسـطـورة� نـصـح مـنـاجـم بـيـجـن بـعــضا�ستوطن� الصهاينة عام ١٩٦٩ أن يعيشوا جغرافيا في فلسط�� مع مواصلة144الإستعمار الصهيونيالتظاهر والاعتقاد والزعم بأنها أرض إسرائيل. »إذا كانت هذه هي فلسط� وليست أرض إسرائيل� إذن فأنتم فاتحون� ولستم مزارع� يفلحون الأرض� أنتم إذن غزاة. إذا كانت هذه فلسط� فهي تنتمي إذن للشعب الذي عاش هنا قبل أن تأتوا إليها. لن يكون لكم حق العيش فيهـا إلا إذا كـانـت »أرض إسرائيـل«.٤٩( وإذا أصبحت فلسط� الأرض ا�قدسـة أو ارض يـسـرائـيـل تصبح حقوق اليهود الخالدة سارية ا�فعول عليها� فيصبح من ا�مكن الادعاء بأن فلسط� »أرض بلا شعب� لشعب بلا أرض«. لقد كان الصهاينة يدركون أن الفلسطيني� يعيشون في فلسط�� وأن اليهود ا�شرديـن يـعـيـشـون فـي الأراضي التي وللوا فيها. ولكن الرابطة الأبدية ب� الأرض والشعب اليهودي هي التي تجعل من اليهود مجرد مشردين ورحل بلا جذور� على الرغم من وجودهم في أوطانهم في كل أنحاء العالم� وهي التي تنكر وجود الفلسطيني� وتجعل مطالبهم القومية مسألة هاشية.فاضحة. أن أسطورة الحقوق الأبدية لليهودي الخالص في أرض فلسط�� التيتفترض هامشية السكان الأصلـيـ�� هـي شـكـل مـن أشـكـال الاعـتـذاريـات� يتسم بدرجة كبيرة من الغموض واللاأخلاقية� تفوق غموض ولا أخلاقـيـة الاعتذاريات العنصرية التقليدية� التي تنسب التفوق الحضاري للمـسـتـغـل والتدني الحضاري للمستغل; فالأساطير التقليدية-في نهاية الأمر-تعتـرف بوجود الغير� أما الأسطورة الصهيونية الخاصة بـالحـقـوق الـيـهـوديـة فـهـي ترفض الاعتراف بوجوده. إن فلسط�� الأرض ا�قدسة� »بلد بلا سكان«)٥٠(� لأن امتلاك فلسط� ليس من حق السـكـان الأصـلـيـ�� ولا �ـكـن لـلـبـشـر� »يهودا كانوا أم عربا«� أن يتساءلوا عن معنى هذا القرار? لأن »محور مشكلة فلسط�«� وفقا �ا قاله بن جوريون كل »يتلخص في حق اليهود ا�شتت� فيالعودة«)٥١(� وهو حق مطلق قائم منذ بداية التاريخ وحتى آخره.145الليبرالي� نظرا لأن عنصريتها غير تقليدية� وغير واضحة. ولكن الأهم من هذا هو أن مدى الأسطورة محدودة لأن فعالية الحقوق اليهودية ا�قدسة لا تنصب على العالم بأسره� وإ�ا تنصب على فلسط� وحدها. ومن ا�عروف أن الاعتذاريات العنصرية التقليدية� مثل الأيديولوجيا النازية� تـقـوم عـلـى تقسيم جميع الأجناس في العالم إلى »متفوق« و »ذي مكانة دنيا«� ومن هذا ا�نظور احتل الساميون والزنوج� أينما وجدوا� ا�كانة الدنيا� في ح� احتل الآريون )وعلى الأخـص الـتـيـوتـون( ا�ـكـانـة الـعـلـيـا. و�ـا يـذكـر� أن مـجـال الإمبريالية الغربية كان عا�يا� ولذلك فقد تطـلـب الأمـر اعـتـذاريـات تـقـوم بتبويب عا�ي للأجناس� يشمل الجنس البشري بأسره. هذا علـى الـعـكـس من الاستعمار الصهيوني� الذي يهدف إلى احتلال فلسط� وا�ناطق اﻟﻤﺠاورة لها� ولا يشمل العالم بأسره. لذا لم يكن ثمة ضرورة أن تشمل الاعتذاريات الصهيونية كل الأجناس في كل العالم� وإ�ا انصبت على إقليـم واحـد هـو فلسط�� وعلى شعب واحد� هو الشعب الفلسطيني بخاصة� والعرب بعامة. وقد ساهم ا�دى المحدود لأسطورة الحقوق الأزلية لليـهـودي الخـالـص في الأرض ا�قدسة في إزالة أية توترات ب� الاستعمار الصهيوني والقوى الاستعمارية الكبرى اﻟﻤﺨتلفة في أوروبا. فالصهاينة احتفـظـوا بـالانـسـجـام التام مع هذه القوى لألهم ربطوا حقوقهم الأزلية بقطعة أرض واحدة فحسب� وهو ما يعني علم وجود مجال للتناقض ; فلن ينكمش مسرح الإمـبـريـالـيـة العا�ية إلا �قدار قطعة أرض واحدة. بل إن الصهاينة� كما بينا من قـبـل� اظهروا أن الدولة الصهيونية لن تستقل بهذه الأرض� وإ�ا ستجد لنفسها مكانا ضمن إحدى الإمبراطوريات الاستعمارية. ولقد حرص هرتـزلعل أن يب� »توازي« ا�صلحة ب� كل من بريطانيا والصهاينة )٥٢(. ولعل من أصدق الأمثلة على تحقق الانـسـجـام بـ� الـصـهـايـنـة وإحـدى القوى الإمبريالية� التعاون الذي � ب� النازي� والصهـايـنـة ; فـلـقـد شـرع الصهاينة في نقل اليهود خارج الأرض النازيـة إلـى أرض أخـرى� وتـسـاهـل النازيون في هذا الصدد� بل وتعـاونـوا مـعـهـم. فـقـد جـاء فـي أحـد الأوامـر النازية� التي أصدرها البوليس السري البفاري �يونيـخ فـي ١٣ ابريل عام �١٩٣٥ أن »النشاط الصادق الذي يبذله الصهاينة في مسألة الهجرة تتقابل146الإستعمار الصهيونيفي منتصف الطريق مع نوايا الحكومة النازية فيما يتعلق بأبعاد اليهود عن أ�انيا«. وقد آمن الصهاينة بدورهم بأن جهود النازي� الرامية إلى إيقـاف عملية دمج اليهود في اﻟﻤﺠتمع الأ�اني وتهجيرهم إلى فلسطـ� »�ـكـن أنيكون حلا عادلا لكل من الجانب�«� الصهيوني والنازي. وهم كل حق في هذا من بعض النواحي ; فالنازية� عـلـى سـبـيـل ا�ثال� لم تكن عنصرية بإزاء الياباني�. والصهيونية أيضا� في العالم الغربي� ليست سوى أيديولوجية سياسية وضعها اليهود من أجل اليهود� تخـصـهـم هم وحدهم ولا تتضمن أي �ييز ضد أي شخص في الولايات ا�تحـدة أو إنجلترا. بل لقد دافع بعض الغربي� عن الدور الإيجابي البناء الذي تلعبه الصهيونية ب� الأمريكي� اليهود� حيث تزودهم بالشعور بالترابط والانتماء. وقد تكون وجهة النظر هذه سليمة !! )وإن كنا نرى غير ذلك(. فلو أننا نقلنا الصهيونية من أوروبا وأمريكا إلى آسيا� مسرحها الحقيقي� لأصبح الأمر جد مختلف ; إذ تفصح الصهيونية عن وجها الـعـنـصـري الـقـبـيـح و�ـارس أثرها الهدام على اﻟﻤﺠتمع الفلسطيني. والتناقض هنـا لـيـس تـنـاقـضـا بـ� نظرية و�ارسة� ولكنه تناقـض بـ� نـظـريـة ونـوعـ� مـن أنـواع ا�ـمـارسـة� أحدهما عرضي ومؤقت )في الغرب( والآخر ضروري وجوهري )في آسيا(. وفي تصوري أن الحكم على الصهيونية لا �كن أن يتم في لندن أو باريس� وإ�ا ينبغي أن يحكم عليها في مجال �ارستها الأساسي ;الشعب الأ�اني. و�ا يدعو للسخرية أن بعض ا�تحدث� بلسان حكومة التمييز العنصريبجنوب أفريقيا� والذين لا يهتمون بالتجربة الصهيونية العرضية في الغرب� قد وضعوا تقو�ا واقعيا للتجربة الصهيونية في آسيا.147على أساس عنصري� فقال: »إذا كان التفريق خاطئا في الحالة الأولى فهو لا شك خاطئ أيضا فـي الحـالـة الـثـانـيـة« )٥٤(-أي أن الاعتذاريات� مـهـمـا بلغت من تركيب ودهاء� لا تغير بتاتا من حقيقة ا�فرقة العنصرية� والحقوق ا�قدسة التي تجب فوق الآخرين� سواء استـنـدت إلـى أسـاس عـنـصـري أوإلهي أو إثنى� هي في نهاية الأمر� تعد على حقوق الغير.٣- عبء اليهودي الاشتراكي:وإذا كانت الاعتذاريات التي تستند إلى فكرة اليهودي الخالص فـريـدة وقاصرة على الصهـايـنـة� فـالاعـتـذارات الـتـي تـسـتـنـد إلـى فـكـرة الـيـهـودي الاشتراكي قد تكون اكثر فردية وطرافة. فكما أشرنا من قبل� انضم كثير من الشباب اليهودي إلى صفوف الحركات الثورية� الأمر الذي سبب الحرج الكثير لليهود ا�ندمج�. وقد باعت الصهيونية نفسها عـلـى أنـهـا الحـركـة التي ستحول الشباب اليهودي عن طريق الثورة. وظهرت أسطورة الاستيطان العمالية لتحقيق هذا الهدف� وتقوم هذه الأسـطـورة بـتـسـويـغ الاسـتـيـطـان الصهيوني� لا باسم التفوق العنصري أو التقدم الحضاري الأزلي أو الحقوق ا�قدسة الأزلية� بل على أسس »اشتراكية علمية:> إذ تستند الحقوق اليهودية- حسب هذه الأسطورة-إلى ا�ثل الاشتراكية العليا )�ا في ذلك نبل الـعـمـل اليهودي� وكذلك إلى تفوق الصهاينة العلمي والتكنولوجي� والى أنهم حملة التقدم للشعوب ا�تخلفة. ولم يكن هذا ا�نطق قاصرا �اما على الصهاينة� فـثـمـة اتجـاه داخـل الحـركـة الاشـتـراكـيـة الـغـربـيـة� يـطـلـق عـلـيـه اصـطـلاح »الاشتراكية الإمبريالية«� التي تضم أولئك الاشتراكـيـ� الـذيـن وجـدوا أن من المحتم عليهم� باسم التقدم والأ�ية� وتأييد الإمبريالية الغربيـة لألـهـا تعبير عن الرأسمالية الغربية� أعلى مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي بلغه الإنسان� وكانوا يرون أن الإمبرياليـة� بـغـزوهـا آسـيـا وأفـريـقـيـا� ستقضي على كل اﻟﻤﺠتمعات التقليدية فيها� كما ستقضي أيضا على التخلف� وستجلب الصناعة والتقدم لها. ومن هذا ا�نطلق شجع بـعـض أتـبـاع سـان سيمون الاستعمار الاستيطاني في الجزائر� كما دافع كثير من الاشتراكي�الهولندي� عن »هجمة« بلادهم الحضارية على الإندونيسي�. وقد خرجت أسطورة الصهيونية العمالية من هذه اﻟﻤﺠموعة من الأفكار�148الإستعمار الصهيونيفلم يكن ا�ستوطنون الصهاينة مجرد يهود فحسب� بل كانـوا أيـضـا روادا: زراعي� اشتراكي�� حراث أرض أجدادهم. وقد كتب الفيلسوف الصهيوني� الأ�اني الأصل� مارتن بوبـر )١٨٧٨-١٩٦٥( لغاندي يقول: »إن مستوطنينا لـم يجيئوا إلى فلسط� كما يفعل ا�ستعمرون الغربيون الذين يطلبون من أهالي البلاد أن يقوموا بكل الأعمال لهم� بل انهم يـشـدون بـأكـتـافـهـم المحـراث و يبذلون قوتهم ودمهم من أجل أن تصبح الأرض مثمرة«. وقد عاد ا�ستوطنون العبريون الجدد إلى الأرض مثقل� �اضي يهود الشتات بكل مـا فـيـه مـن شذوذ وطفيلية. وتقول النظرية العمالية الصهيونية إنه� من خـلال الـعـمـل العبري� �كن للمستوطن الجديد أن يطهر نفسه �ا علق بها من شوائب وأدران ; فا�ستوطنون إ�ا يحررون أنفسهم ح� يحررون الأرض� بحرثها والعمل على ازدهارها; »إن هذه الأرض تعترف بنا� لألها تثمر من خلالنا« )٥٥( ولقد صيغت الرسالة بأكملها بأسلوب يتسم بالبراءة ا�تناهية� وبالأبعاد الكونية� حتى لتجعل ا�رء الذي يقرؤها يشعر بارتفاع هائـل �ـعـنـويـاتـه.ا�زعجة. ولقد نقل أموس آلون� الكاتب الإسرائيلي� سطرا من أغنية جذابة كانالرواد الزراعيون يرددونها في ا�ستوطنات الإسرائيلية� يصفون أنـفـسـهـم فيها بأنهم أول من وصل »مثل العصافير في الربيع« إلى الحقول ا�لـتـهـبـة والأرض ا�قفرة الجـرداء. )٥٦( وهذه البراءة الكونية� وهذا الإ�ان بـقـدرة العمل على الشفاه والتطهير� وهذا الالتزام �بدأ ا�ساواة� تظهر كلها فـي كلمات بن جوريون� الذي تحدث عـن مـدى أحـقـيـة الإنـسـان فـي أرض مـا� فهذا الحق لا ينبثق عن سلطة سياسية أو سلطة قضائية )فكل هذه الأمور ليست ذات موضوع من وجهة نظر صهيونية عمالية( وإ�ا ينبثق عن العمل. ثم أطلق بن جوريون شعارا ثوريا أحمـر لا بـد أنـه لاقـى هـوى فـي الـقـلـوب الثورية البريئة: »إن ا�لكية الحقيقية والدائمة هي للعمال« )٥٧( بيد أن نقل ا�فاهيم من مستواها وسيأتها إلى مستوى وسياق آخرين يسفر عن نتائـج مختلفة.149وقد علق. الكاتب الإسرائيلي آموس كنان على هذا النوع من الاعتذاريات الاشتراكية� قائلا: إن الصهـيـونـيـة لـم تـك تـسـتـطـيـع تحـقـيـق انـتـصـاراتـهـا وإنجازاتها دون الاستفادة من النفاق الذي تنطوي عليه هـذه الاشـتـراكـيـة� فكما أن ا�سيحية� �ثلها ومثالياتها� كانت �ثابة عذر معنوي للصليبيـ��فإن الاشتراكية� �ثلها ومثالياتها� أدت هذه ا�همة للصهاينة.٥٨( وإذا نظرنا للجانب الآخر لأسطورة عبء اليهودي الاشتراكي� وهو تفوق الصهاينة التكنولوجي )وليس العرقي(� الذي سيجعل منهم رسلا لـلـتـقـدم� يقومون بتطوير اﻟﻤﺠتمع ودفعه من ا�رحلة الدنيـا الـتـقـلـيـديـة إلـى ا�ـرحـلـة العليا الحديثة� فإننا نجد أن كتابات الصهاينـة تـزخـر بـهـا. وقـد اقـتـبـسـنـا بعضا من كتابات بن جوريون )الصهيوني الاشتراكي( وآخرين� في دفاعهمعن الاستعمار الصهيوني� على أنه �ثل للحضارة الغربية. ولا شك أن ا�ستوطن� الصهاينة كانوا عارف� بالتكنولوجيا و برسائل التنظيم والقيم السياسية ا�عاصرة� وأنهم كـانـوا جـمـاعـة مـعـاصـرة فـعـلا� وأنهم نقلوا قيمهم ومؤسساتهم ا�عاصرة إلى الوطن الجديد� فنظموا النقابات العمالية والأحزاب السياسية� وأجروا الانتخابات على أساس صوت واحد لكل ناخب� بل إنهم مارسوا أحيانا أشكالا من الاشتراكية� من حيث عدالة توزيع الدخل أو الإ�ان بأهمية العمل اليدوي ومساواته بالعـمـل الـفـكـري� ولكن كل هذه الأشكال ا�عاصرة من التنظيم� وهذه القيـم الـد�ـوقـراطـيـة والاشتراكية� ظلت قاصرة على الصهاينة وحدهم� تطبق علـى مـجـتـمـعـهـم الصغير )ا�يكرو( وليس على اﻟﻤﺠتمع كله.القومية(. وقد بذل ا�ستوطنون قصارى جهدهم في أن يبقوا السكـان الأصـلـيـ�في مستوى حضاري متخلف� وأن �نعوهم من تنظيم أنفسهم داخـل أطـر معاصرة )نقابات عمال-أحزاب سياسية(� وفضلوا التعامل معهم داخل أطر150اﻟﻤﺠتمع التقليدي وتنظيماته. ولذا فقد فضلوا التعامل مع كبار ا�لاك وزعماء العشائر. وقد رفض الهستدروت )اتحاد عمال ا�ستوطن� الصهاينة( السماح للعمال العرب بالانتظام في صفوفه إلا في مرحلة متأخرة� كما أن الدولة الصهيونية العصرية الد�وقراطية ترفض الاعتراف بحق تـقـريـر ا�ـصـيـر للسكان الأصلي�� أو حق اشتراكهم في النظام السياسي الصهيوني الجديد عن طريق تكوين الأحزاب والاشتراك في الانتخابات. وهي ترفض أيضا الأيديولوجية العلمانية أساسا لتشكيل دولة تضم كلا من العنصر السكانيالدخيل والعنصر الأصلي على قدم ا�ساواة. وإلى جانب هذا فهناك الحقيقة الأساسية� وهي أن جماعة ا�ستوطن�الغزاة تسرق من السكان الأصلي� أرضهم أي تسرق منهم الأساس ا�ادي لأي تقدم� وتهدم �ط حياتهم الإطار الاجتماعي الذي تتحقق مـن خـلالـه ذواتهم التاريخية. ولذا تتغير الأولويات� و يصبح واجب ا�واطـن الأصـلـي� الجزائري أو الفلسطيني� هو البـقـاء ولـيـس الـتـقـدم� ولـعـل هـذا هـو الـذي يفسر سر رفض موسى العلمي لكلمات بن جوريون »الحلـوة الـعـذبـة« حـ� تقابـلا عـام ١٩٣٦ في منزل موشى شاريت. فطبقا �ـا جـاء عـلـى لـسـان بـن جوريون بدأ الحديث بترديد النغمة )القد�ة( التي أعدها »عن ا�ستنقعات التي يجري تجفيفها� والصحاري الـتـي تـزدهـر بـالخـضـرة� والـرخـاء الـذي سيعم الجميع«ولكن العربي قاطـعـه قـائـلا: »اسـمـع ! اسـمـع يـا خـواجـه بـن جوريون� إنني أفضل أن تظل الأرض هنا جرداء مقفرة �ائة عام أخرى� أو ألف عام أخرى� إلى أن نستطيع نحن استصلاحها ونأتي لها بالخـلاص«. ولم يسع بن جوربون إلا أن يعلق بأن العربي كان يقول الحقيقة� وأن كلماتههو بدت مضحكة وجوفاء اكثر من أي وقت مضى. )٥٩( إن الاعتذاريات الصهيونية� مهما بلغت من ذكاء ودهاء� ومهـمـا غـلـفـت151