ثم أمر الله بعد انتهاء هذا الطوفان الذي دام مائة وخمسين ليلة أو مثلها أن يتفجر من أعماق أحد البحار بركان هائل يفغر أفواهه لتسيل منها سوائله، ثم تهدأ نيرانه وتنطفئ أحجاره، ليصبح بعد مراحل طويلة وليس بطويلة، وأنبت فيها النجم والشجر وسخر الرياح اللواقح، موفرا بكل ذلك في ربوعها أسباب العيش لعباده ممن اختارهم لغاية في نفسه، قدر أن لن يطلعهم عليها حتى تكتمل إنسانيتهم المثلى ويتبوؤوا مقعد الصدق عنده. حتى أن قابيلهم لم يكن في أخلاقه ومن بواعث نفسه الطاهرة ما يدعوه لقتل أخيه، بل كان يرى في مرآة هابيل هذه الجزيرة صورته منعكسة وحقيقة مضاعفة على أديمها. لآثر أخاه على نفسه، وكيف يمكن أن يصبح في خصاصة بالنسبة لأخيه ولم يتسرب الحسد إلى قلبه؟ وإنما ضربنا هذا المثال لتقريب الأمر إلى الأفهام وتبسيطه إلى الأذهان. خلق الله في ستة أيام حول الجزيرة التي أنشأها في اليوم الأول جزرا ستا كانت الجزيرة الأم واسطة عقدها وبيتها العتيق، لم يكونوا يعرفون الاعتداء على النفس ولم يكن لهم ضحايا وقتلى إذ لم يرثوا ذلك عن آبائهم وأجدادهم الذين كان الله يتوفاهم في مواعيدهم الموقوتة. لا كيف يواري سوأته كما فعل صنوه المذكور في روايات الكتب المقدسة. لم يزرع الله في قلوبهم حب السيطرة والتملك، لم يقتلع أحد منهم غصنا من شجرة ليخطط به دائرة أو مربعا على الأرض، وقطعت يديه وسملت عينه». لم يشعل فيهم أحد يوما نارا على علم وقال: «هذا علمي وحدي أنا وليس لسواي»‎. وهذا أسطولي سأستحوذ به على بقية الجزر»، بل كانوا مفطورين على المحبة والوئام وعلى البساطة والقناعة وعلى العمل المنظم المقسم والإنتاج الجماعي والفيء المشترك. وكيف له أن يفضله وقد تساوت بينهم الإمكانيات والبنيات وانسجمت بذلك أسباب المعيشة والأرزاق. وبفضل هذه الطريقة التي ألهمتها إياهم حياتهم البسيطة تحقق في مجتمعهم الانسجام وعاشوا عيشة راضية عرفوا معها الرخاء والسعادة، وصياح الأطفال وضحكات العذارى في أسماعهم تسبيحا موسيقيا يسمو بأرواحهم إلى أجواء عليا يعرفون فيها النشوة وتسكرهم فيها الغبطة. ولو فرضنا مع هذا كله المستحيل فتصورنا أن أحدهم همّ بارتكاب ما من شأنه أن يفسد نظامهم العجيب في بساطته لأمسكوه وعالجوه كالمريض أو كمن أصابه مس من الجنون إلى أن يشفى من مرضه أو مسه ويعود إليه رشده أو صحته ليحتل مكانه في المجموعة من جديد. ويأكل وينام ويحب وينظر إلى ما حوله من الأشياء، وعمله وأكله ونومه وسعيه تحقيق لبشريته، وحبه سمو وطهارة وتتميم لإنسانيته، وهكذا يصبح للزمن مفهومه الذي ينبغي أن يكون له، ويصبح للقوة معناها الحقيقي باستعمالها في تمكين النفوس من الخير. والبشر في هذا المجتمع لا يعتبر الكرامة والحرية أخلاقا ومزايا يتخلق بها ويتحلى بجمالها، فكما لا يعقل أن البدن قد يعيش وتستمر فيه الحياة بدون الجوارح والأعضاء المكونة له، ليرى صاحبه ويسمع ويشم ويتنفس ويسعى ويلمس، فهذه الشمس تطلع عليهم كل صباح من مشرقها وتمسي آفلة في مغربها، وهذه الكواكب تجري في مدارها إلى مستقر لها، والأرض الكريمة تنبت أكلها في مواسم مرسومة لها، والسماء تمطر في فصولها، وكل يسير بحسبان، والبشر في هذه الجزر آخذ مكانه المتواضع العظيم من بين كل هذه المخلوقات والأجرام في انسجام محكم معها، تصور هؤلاء الحكماء والشعراء والفنانون أن مجتمعهم لو لم يسر مع الكون المحيط به بنفس النسق على نفس الوتيرة، وبنفس النفس المتصاعد النازل لاختل نظامهم وفسد مما قد يعتوره من الاضطراب ويصيبه من الفوضى، وباختلال نظامهم يختل نظام الكون بأسره ويصيبه ما أصاب مجتمعهم حتى يحول الكل‏ لا محالة إلى الاضمحلال والفناء. وعلى قاعدة هذه الحكمة أرسوا السلم الموسيقي الذي بنوا عليه غناءهم وتركيب آلات الطرب التي أنشأوها. وعلى هذا القياس والمعيار أحكموا مزمارا من شجر القصب على الأنغام السبعة وضعوه في كعبتهم المشيدة بقلب الجزيرة الأم ليحج إليه كل أصحاب المزامير في الجزر السبعة ويسووا مزاميرهم على نغماته النموذجية حتى إذا نفخوا فيها فكأنهم نفخوا من مزمار واحد يرسل نغمات واحدة في نفس المقام وبنفس الواحدة الزمنية. وهكذا أصبحوا يعقدون كل عام مهرجانا قوميا حافلا ينتظم حول كعبتهم البيضاء يأتيه الناس من كل جهات الجزيرة الأم وبناتها الستة ليشهدوا هذا الموسم البهيج ويشاركوا فيه ونفس الفرح يغمر أفئدتهم، مصطحبين معهم زوجاتهم وأولادهم في حلل سندسية، مزينين جميعا بحلي من الفضة والذهب، وعقود من اللؤلؤ والمرجان والصدف وأكاليل وتيجان من الزهور الملونة العطرة التي أتحفتهم بها طبيعتهم المتدفقة الخيرات. ويتحفن ببعضها الآخر أولادهن وأزواجهن ونفوسهن، فيصمت الطير لحظة منصتا إلى المزامير والأصوات مقتبسا منها تغريده وغناءه، حفيفا يلتحق بالأنغام المرسلة من المزامير، المنتشرة في الأجواء حتى لكأن الشجر الذي صنعت من قصبه تلك المزامير يصغي إلى خلده ليستمع منه إلى مصدر النغمات قبل ميلادها، وحتى لتكاد الجماهير الصاغية تبتسم أرواح بعضها لبعض، وتخف أجسامها إلى أن تحسب أن ليس لها أبدانا، أو أن أبدانها أصبحت هي الأخرى روحا ثانية توأما لروحها. تلك وليمة الروح كانت عندهم وتربيتها كما للجسم وليمته وتربيته يرجع الفضل في تحقيقها إلى انسجام النفوس المؤهلة للانسجام وإلى سهر الساهرين ألا يتخلى عن الجوق أي مزمار، وأن يأتي كل نافخ بآلته إلى المزمار الذي سوي على هندسة نغمات الكون ليسوي آلته على مقياسه. كان القوم أخشى ما يخشونه أن يتخلف أحد الزامرين على الموعد المضروب للموسم الموسيقي أو لا يسوي مزماره على القياس المحكم من قبل،