قال أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الفقيه الأندلسي رحمه الله . الحمد لله على عظيم مننه ، وصلى الله على محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله ، وأبرأ إليه تعالى من الحول والقوة . وأستعينه على كل ما يعصم في الدنيا من جميع المخاوف والمكاره . ويخلص في الأخرى من كل هول ومضيق . أما بعد ) فإني جمعت في كتابي هذا معانى كثيرة أفادنيها واهب التمييز تعالى ، بمرور الأيام وتعاقب الأحوال ، بما منحنى عز وجل من التهمم (1) بتصاريف الزمان ، والإشراف على أحواله . حتى أنفقت فى ذلك أكثر عمرى ، وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له ، وعلى الازدياد من فضول المال ، وذممت كل ما سبرت (1) من ذلك ، لينفع الله تعالی به من يشاء من عباده ، ممن يصل إليه ما أتعبت فيه نفسى وأجهدتها فيه ، وأطلت فيه فكرى فيأخذه عفواً ، فيكون ذلك أفضل له من كنوز المال وعقد الأملاك ، إذا تديره ويسره الله تعالى لاستعماله .وأنا راج في ذلك من الله تعالى أعظم الأجر ، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم ومداواة علل نفوسهم ، و بالله تعالى أستعين . في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة )6 لذة العاقل بتمييزه ، ولذة العالم بعامه ، ولذة الحكيم بحكمته ،وبرهان ذلك . أن الحكيم والعاقل والعالم والعامل ، واجدون لسائر اللذات التي سمينا كما يجدها المنهمك فيها . ويحسونها كما يحسها المقبل عليها . وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما .لا من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر .إذا تعقبت (1) الأمور كلها فسدت عليك وانتهت في أخذ۱) تعقبت : أى طلبت عورتها وعثرتها . فسدت عليك فآذاك عقباها ، وحل بك اليأس من جدواها وهو أقرب توجيه لصحة العبارة .فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا - إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة نقط. لأن كل أمل ظهرت (۱) به فعقباه حزن. إما بذها به عنك وإما بذهابك عنه ؛ ولا بد من أحد هذين السبيلين ، إلا العمل الله عز وجل ، فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل . وأنك معظم من الصديق والعدو .تطلبت غرضاً يستوى الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده ، فلما تدبرته عامت أن الناس كلهم لم يستووا فى إستحسانه فقط ، حركة أصلا م. إلا فيما يرجون به طرد الهم . ينطقون بكلمة أصلا، ومن مصيب ، وهو الأقل .۱) هي كذلك بالأصل ومعناها غير بين ، والظاهر أنها مصحفة من قوله ( ظفرت ) .فطرد الهم مذهب قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم ، إلى أن يتناهى عالم الابتداء ، على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئاً سواه .وكل غرض غيره ، ففى الناس من لا يستحسنه إذ في الناس من لادين له فلا يعمل للآخرة ، ومن الناس من يؤثر الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت ، ويؤثر عدمه على وجوده . ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة (٢)وفي الناس من يبغض اللذات بطبعه ، كمن ذكرنا من المؤثرين فقد المال على اقتنائه .يؤثر الجهل على العلم ، وهذه هي أغراض الناس ، التي لا غرض لهم سواها .6 وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم ، ولا يريد إلا طرحه عن نفسه . الذي اتفق جميع أنواع الانسان ، الجاهل منهم والعالم، والصالح والطالح ، على السعى له .وإلا فإنما طلب المال طلابه ، وإنما طلب الصوت (۱) من طلبه ليطرد به عن نفسه۱) فى القاموس : الصيت بالكسر الذكر الحسن والصوت فيه لغةهم الاستعلاء عليها . ونكح من نكح ، ولبس من لبس ، وركب من ركب ، وذهاب ما يوجد منها ،۱) هكذا وردت فى أصول الطبعات الثلاث التي رجعنا إليها وهي ط . القباني الدمشقى ، ط . والمعنى بها غامض وأهل صحتها «فوتها » بالفاء لا بالقاف وبها يتضح المعنى ويستقيم السياق . وأيضاً سوشح (1) بالحصول على ما حصل عليه من ذلك ، من خوف منافس ، واختلاس راغب أو اقتناء عدو ، مع الذم والإثم وغير ذلك .و وجدت العمل للآخرة سالما من كل عيب ، خالصا من كل كدر ، ووجدت العامل للاخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل ، لم يهتم بل يسر .اذ رجاؤه في عاقبة ما ينال ، به عون على ما يطلب ، وزايد في الغرض الذي يقصد . لم يهتم ، إذ ليس مؤاخذاً بذلك ، فهو غير مؤثر في ما يطلب1) كذا جاءت في أصول الطبعات المختلفة . والعبارة على حالها غامضة مبهمة . والظاهر أنه وقع بها تصحيف . وإن تعب فيما سلك فيه سُر . فهو في سرور متصل أبدا ، وغيره بخلاف ذلك أبدا . وليس إليه إلا طريق واحد ، وهو العمل الله تعالى . فما عدا هذا فضلال وسخف. وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل . في دعاء إلى الحق ، وفي حماية الحريم . لم يوجبه به (۱) عليك خالقك تعالى نصر مظلوم . ، وفي كبائع الياقوت بالحصا . الا مروءة لمن لا دين له . العاقل لا يرى لنفسه تمنا إلا الجنةلإبليس في ذم الرياء حبالة ،1) أى لم يوجب عليك احتماله لتؤجر به والحال أنه ليس في احتماله والصبر عليه أجرباب . واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل . بل هو العقل كله والراحة كلها . من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون . وإن آلمته في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه ، لأن مدحهم إياه إن كان بحق ، وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العُجب فأفسد بذلك فضائله . وإن كان بباطل فبلغه فسر فقد صار مسروراً بالكذب . وأما ذم الناس إياه ، فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه ، وإن كان بباطل فصبر . اكتسب فضلا زائداً بالحلم والصبر ، وكان مع ذلك غائماً . لأنه يأخذ حسنات من ذمه بالباطل ، أحوج ما يكون إلى للنجاة بأعماللم يتعب فيها ولا تكلفها . وهذا حظ رفيع لا يزهد فيه إلا مجنون . فكلامهم وسكوتهم سواء . وليس كذلك ذمهم إياه ، لأنه غانم للأجر على كل حال ، بلغه ذمهم أو لم يبلغه .ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن :ذلك عاجل بشرى المؤمن لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل ، أكثر من رغبته في المدح بالحق ، ولكن إذا جاء هذا القول ، فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل ، فإنما تجب البشرى بما في المدح لا بنفس المدح .ليس بين الفضائل والرذائل ، والطاعات والمعاصي ، إلا نفار النفس وأنسها فقط . فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي . والشقى من أنست نفسه بالرذائل والمعاصى ونفرت من الفضائل والطاعاتهاهنا إلا صنع الله تعالى وحفظهطالب الآخرة متشبه بالملائكة . وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع وطالب اللذات متشبه بالبهائم . أسقط وأذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه . ولكنه يشبه العذرات في الكهوف في المواضع الوعرة ، لا ينتفع بها شيء من الحيوان .العاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد .وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن السباع والبهائم والجمادات ، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة .فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها الله تعالى . فليعلم أن النمر أجرأ منه . وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه . ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والنور والفيل أقوى منه جسما . أن الحمار أحمل منه . ومن سر و من سر بحمله الأثقال فليعلم . بسرعة عدوه . فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه .ومن سُر بحسن صوته فليعلم أن كثيراً من الطير أحسن صوتاً منه . وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته . فأى فخر وأى سرور فيما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه ،