من جلستُ إليه ذات يوم وشخصيته الحية لا زالت تمثل أمامي وحديثه السلس المحكم ما زال يسكن في مخيلتي. إنه عامل بسيط نحيف البنية، لا تفارق شفتيه ابتسامتهُ الخَفِيفَةُ الَّتِي أَلِفَهَا فِيهِ كُلُّ الَّذِينَ تَعرَّفوا إِلَيْهِ، عَلا شَعْرَهُ الكثيف شيء من الشيب، وبدت على جبينه العريض علامات كفاح مرير في الحياة. ولكنه مع ذلك كله لا يزال يتمتع بطاقة فاعلة، نشأ في أسرة وفيرة العيال شحيحة المال، ولما لم يجلس كثيرا على مقاعد الدراسة، وتمكن من فنون الطلاء، وحالما أنهي مدة التكوينِ الْتَحَقِّ بسوق التشغيل، وأَقْبَلَ على العمل بحماس فياض، ورغبة شديدة في تعويض سنوات حرمانه اختار العمل الحر الذي يتمتع فيه بالاستقلال: لأن طبيعته لا تنسجم مع الحياة المهنية الرتيبة وضوابطها العديدة، ولم تكد تمر أشهر معدودة على ممارسته حرفته حتى ذاع صيته، وتواترت علَيْه عروض شتى في العمل. ثُمَّ تَعَهْدَ بِإِنْجَازِهِ مُقابَلَ أُجْرَةٍ مناسبةٍ في غَيْرِ شَطط، وَعَلَى كَتِفِهِ سُلَّمٌ يَتَهادَى بِهِ كَأني بِهِ يَتَرَفَقُ بِشَيْءٍ رَفِيعٍ يَخْشَى عَلَيْهِ من أثر السقوط، وحالما بلغ بناية بالجوار أنزله بعناية، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى إِعْدَادِ الْأَخْلَاطِ الكافية، وأدوات الطلاء اللازمَةِ، وتارة أخرى يطلي الجدران يلمعها تلميعًا، وتنوّعَتْ أَنشطته إلى أنْ أَخَذَ مِنْهُ التَّعَبُ مأخذا كبيرًا. عندها جلس أرضًا غير بعيد يسترجع أنفاسه، وقد أسند ظهره إلى جدار مُوَلّيًا وَجْهَهُ شَطْرَ سُلْمِهِ، قصدته أحمل إليه فنجان شاي لمعرفتي بعشقه غير المحدود لهذا المشروبِ الَّذِي يَعُدُّهُ وَقَودًا يَستَمدُّ مِنْهُ طاقته في العمل، كَمَا يَعدُّهُ عربون محبةٍ وتقدير. سأَلتُه عَن سِرُ عَلَاقَتِهِ بِسُلْمِهِ التي ظلَّتْ قَائِمَةً عَلَى مَرُ العُقُودِ، وَلَم تَهْتَزَّ لتقلبات العهود. وقال مشيرًا بسبابته: السلمي هذا يا بني مكانة خاصة في نفسي، وَمَساحَةً واسِعَةٌ في تفكيري، في حياتي ورفيقي في دروبها المتشعبة. كنت حريصًا على تَعَهْدِهِ وصيانَتِهِ وحُسنِ استعماله، فلم يَغْدر بي يوما، ودر علي خيرا عميمًا، فضْلِ هذا السلم اشتريت قطعة أرض، وبنيت عليها منزلا محترما ، وهكذا عشتُ مستور الحال، فينال مني الإرهاق نيلا، وأنام بالليل ملء جفني قرير العين هانئ النفس، لا ألوي على شيء غير دوام هذه النعمة التي أسْبِغها اللهُ عَلَيَّ. وَمَعَ مُرور الأيام والأعوام شعرت بعاطفة تكبر في نفسي، أصبحتُ أَنظُرُ إِلَيْهِ أَحْيَانًا لَا كَأَداةِ عَمَلٍ خاوِيَةٍ لا روح فيها، وأنظر إليه أحيانًا أُخرى ككتابٍ مُبِينٍ، أَقْرأُ عَلى صفحاتِهِ فَلسَفَةَ الحَيَاةِ، "الحياة يا بني مثلها كمثلِ السَّلَّم: كلنا يجتهد في صعوده بِتَدرُّج، فَمَنْ أَساءَ التَّقدير وأَخْطأ التدبير، ظل في أسفله أو هوى من أعاليه ، وكم من شقي مُكترب تدرَّجَ بِصَبْرٍ فَأَضحى سَعِيدًا مُبْتَهِجًا، وَكَمْ مِن سَعِيدٍ تهاوى فأمسى تعيسًا منتحبًا، زلّت به القدم فإذا به في مساحيق الرذيلة مذموما مَدْحُورًا. كلنا يا ابني مُقبل على ترقي سُلّم الحياة، نَقْطَعُ مشوارها الطويل بتدرج، ولما وَقَفنا كان هذا الصغير يقلب في وجوه النَّاسِ نظرات يتيمةً ترتد عَلَى قَلْبِهِ آلَامًا لَا رَحْمَةً فِيهَا؛ ليس لها ذلك الشكل الإنساني المحبوب الذي لا يعرفهُ مِنْ كُلِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا فِي اثْنَيْنِ: أمه وأبيه. ولما رأيتُ الطَّفَلَينِ ضَمَمْتُهما إليَّ، فَدَفَنْتُ كُلُّ آلامهما في بعض قطعِ الحَلْواءِ، فَتَبَيَّنْتُ فإذا امرأة تهفو كذات الجناحين، ، ثُمَّ أَخَذَتْنَا عَيْناها، تبدو مِنْ لهفتها لِوَلَدَيْها كأنما تُحاوِلُ أنْ تختَطِفَهُما مِنْ بَعِيدٍ بقوة قلبها، وما عَرَفْتُ أَنَّهَا هِي إِلَّا بِأَنَّ روحها كانت منتشرة على وَجْهِها، ملموسة في نظراتها إلى الصَّغيرين، والتحما بها التحام الجُزْءِ بِكُلِّهِ ، كأن تاريخها ابْتَدَأَ في ساعة من الساعات الفاصلة،