إن النثر الذي وصل إلينا من الجاهلية نذر جدا (فلقد كان احتفال الرواة بالشعر أعظم ، مع أن الشعر الذي وصل إلينا من الجاهلية أيضا لم يكن كثيرا). وإذا نحن اعتبرنا الفصول والكلم الجوامع من الجمل القصار والتوقيعات (ما كان الخلفاء يثبتونه من الجمل القصار في أعقاب الرسائل التي ترد إليهم من الولاة ومن سائر الناس ليجيزوا ما في هذه الرسائل أو ليبطلوه) ثم قارناها بما روي لنا من النثر الجاهلي (من الأمثال والخطب والوصايا) ثم عرضنا هذه الموازنة على أساليب التعبير عن الأغراض المختلفة في القرآن الكريم، أدركنا وشيكا أن هذا النثر الإسلامي الأول كان استمرارا للنثر الجاهلي؛ وإن كان النثر الإسلامي الأول يختلف عن النثر الجاهلي في أمور: أ‌-كان هذا النثر الإسلامي الذي وصل إلينا أكبر مقدارا وأوسع مدى: إلى جانب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب رسول الله وخطب الخلفاء الراشدين وخطب قادة الجيوش، بالإضافة إلى الروايات التي حملت إلينا قدرا كبيرا من اللغة والأدب والتاريخ والقصص. ب‌-إن هذا النثر الذي جاء إلينا من صدر الإسلام كان موثوق الرواية ثبتا أكثر من النثر الذي وصل إلينا من الجاهلية. شديد التأثر في أغراضه وأساليبه بالقرآن الكريم من وجهين كان في الدرجة الأولى أفصح ألفاظا وأسهل تركيبا وأعذب تعبيرا، وأما من الجهة الثانية فقد كان أمتن سبكا وأبرع دلالة وآنق ديباجة لأن الناثرين كانوا قد تأثروا ببلاغة القرآن الكريم التي كانت تجري في أساليب متعددة بتعدد الأغراض من ترغيب وترهيب، ثم إن العرب كانوا قد جعلوا النثر ميدان براعتهم في التعبير عن المقاصد والمعاني، بعد أن كانوا قد انصرفوا عن الشعر كثيرا أو قليلا. د- أما الكتابة الفنية فلم يرووا لنا شيء منها عن الجاهلية ، ولا كان في صدر الإسلام شيء كثير منها، وذلك لأن الرسائل التي وصلت إلينا من ذلك العصر كانت في معظمها خطبا مدونة، وقد كان الفارق بينها وبين الخطب،