بعد مرور أكثر من عقد على الأزمة المالية لعام 2008، التي أغرقت الاقتصاد العالمي في ركود، يقدم البروفيسور نيل فليغستاين (Neil Fligstein) عالم الاجتماع الأميركي، قراءة جديدة للأزمة الاقتصادية المعاصرة، عالم الاجتماع ساري حنفي للجزيرة نت: السلطة ظاهرة معقدة تحتاج نموذجا نظريا لا يقتصر على ابن خلدون الصادر عن مطبعة جامعة هارفرد العريقة سنة 2021، ويقدم الكتاب قراءة تحليلية لأزمتي عامي 2008 و2020 الاقتصاديتين اللتين أثرتا على حياة الناس. ولفهم هذا الأمر أجرت الجزيرة نت حوارا معه من أجل توضيح هذه الأفكار للقارئ العربي. • العالم شهد سنة 2008 أزمة مالية خانقة، لفهم ما حدث في الأزمة المالية لسنة 2008، يجب أن نفهم ما تفعله البنوك؛ فهي تعمل كوسطاء ماليين، تأخذ الودائع من الهيئات التي لا تحتاج إلى أموالها على الفور وتقرضها للهيئات التي تحتاج إلى المال فورا. يتعين على البنوك حجز بعض ما يتم إيداعه كاحتياطي عندما يحتاج المودعون إلى أموالهم. ويعمل هذا النظام بشكل جيد ما دام أولئك الذين يودعون الأموال في البنوك لا يحاولون سحب جميع أموالهم في الوقت نفسه، إذ لا تستطيع البنوك بيع استثماراتها بالسرعة الكافية لتسديد ديونها للمودعين. اشترت جميع البنوك الكبرى في الولايات المتحدة وكذلك العديد من أكبر البنوك في أوروبا كميات هائلة من الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري باستخدام ودائع المودعين. عندما أصبح من الواضح أن قيمة تلك الأوراق المالية تنخفض بسبب ما يشهده مجال الرهن العقاري على المنازل، أو تقديم ضمانات أكثر للمودعين، ليجدوا أنفسهم غير قادرين على بيع تلك الأوراق المالية بسعر يمكنه أن يسدد تلك القروض؛ وقادها نحو الإفلاس جميعا بسبب تورطها في المأزق نفسه. حجتي المركزية في الكتاب أن جميع البنوك الكبرى في الولايات المتحدة وفي أوروبا أصبحت منخرطة في صناعة مشابهة لتحقيق الأرباح؛ تلك الصناعة قائمة على توريق الرهن العقاري، وهو ما زوّد البنوك المشكّلة لما يقرب من 10% من الاقتصاد الأميركي بأكثر من 40% من أرباحها، يوثق الكتاب التحول التاريخي من نموذج التمويل العقاري اللامركزي؛ أي حينما كانت البنوك المحلية تقدم القروض لأصحاب المنازل، حيث أصبح الرهن العقاري المادة الخام للأوراق المالية التي يتم شراؤها وبيعها في جميع أنحاء العالم. أظهر من خلال كتابي أنه بحلول عام 2008، أصبحت البنوك تجني الأرباح من كل مراحل عملية التوريق؛ إذ كانت البنوك تشارك في إنشاء الرهن العقاري، وهو الأمر الذي فعلوه كثيرا عن طريق اقتراض الأموال على المدى القصير لتمويل هذه الأنشطة، ساعدها في جني الأموال عبر كل تفاصيل هذه العملية. يظهر الكتاب كيف انهار هذا النموذج منذ بداية عام 2006، ولكن عندما بدأت أسعار المساكن الانخفاض، وجدت البنوك نفسها أمام انخفاض حاد للأرباح؛ إذ لم تتمكن من العثور على قروض عقارية كافية لمواصلة عملية التوريق. وهو الأمر الذي دفعها إلى تقديم قروض للأشخاص الذين يعانون من سوء الائتمان، عندما توقف الناس عن دفع قروضهم العقارية، بدأت الأوراق المالية التي تم إنتاجها بناء على الرهن العقاري تفشل أيضا، كيف ذلك؟ لم يفهم البنك الفدرالي الأزمة المالية لأنه لم يفهم كيف كانت جميع البنوك الكبرى تحقق أرباحا من خلال توريق الرهن العقاري. هناك أدلة تؤكد أن ما تسبب في ارتفاع أسعار المنازل كان مرده حاجة البنوك إلى الحصول على قروض عقارية لإنتاج الأوراق المالية. وهو الأمر الذي لم يدركه البنك الفدرالي، وكذلك ارتفاع أسعار المنازل للحفاظ على استمرار العملية برمتها. عندما انتعشت عمليات الرهن العقاري عام 2007، اعتقد البنك الفدرالي أن هذا الأمر لن يؤثر بشكل كبير على الاقتصاد الأميركي، كانت هناك زيادات متواضعة في التضخم بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنفط؛ ونتيجة لذلك قبل شهور من انهيار القطاع المصرفي بأكمله اعتقد العديد من أعضاء مجلس البنك الفدرالي أن المشكلة الحقيقية التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي تكمن في التضخم وليس في نموذج عمل البنوك الذي يوشك على الانهيار حينها. من الواضح أن جزءا من المشكلة يكمن في استخدامهم نظرية الاقتصاد الكلي لفهم ما كان يجري؛ إذ لم تسعف هذه النظرية بفهم الواقع بين النظام المالي وعلاقته بسوق الرهن العقاري؛ في ربيع عام 2020، بدأ ظهور أزمة مالية بدت مشابهة لأزمة عام 2008، كما طُلب من المقترضين تقديم ضمانات جديدة أو تسديد قروضهم، وباع المستثمرون الأسهم تحسبا لحدوث ركود اقتصادي. بما في ذلك السندات المرتبطة بالرهن العقاري، كما قام بشراء سندات الشركات لأول مرة لمنعها من الاضطرار إلى سداد قروضها في مواجهة الانكماش الاقتصادي. وقدم لجميع البنوك قروضا لإبقائها واقفة على قدميها؛ وأدت هذه الإجراءات إلى إحداث استقرار في أسواق الأسهم والسندات في الولايات المتحدة، كما أدت إلى مكاسب إيجابية في سوق الأسهم رغم الركود الحاد الذي كان يعيشه الاقتصاد الأميركي. وهو ما ساعده في منع الانهيار نفسه مجددا. كانت سوق الأسهم تتعافى بالتدريج، وبحلول عام 2011 عادت أسعار المنازل إلى الارتفاع من جديد، وهو ما جعل استثماراتهم تنمو مجددا، والأشخاص الذين فقدوا وظائفهم خلال الانكماش الاقتصادي. لم تتعاف سوق العمل بالكامل حتى منتصف عام 2010؛ وهو الأمر الذي أدى إلى تكريس عدم المساواة في الدخل بشكل كبير في الولايات المتحدة بعد الأزمة. وشاركت الحكومة الصينية في برنامج أشغال عامة بقيمة تريليون دولار، وأعادت إنعاش الاقتصاد من خلال الاستثمار بشكل كبير من خلال البنية التحتية الجديدة، لقد كان أداء الصين الاقتصادي في أعقاب جائحة كوفيد-19 أفضل من معظم دول العالم؛ كانت استجابتهم الاقتصادية قوية وحازمة؛ استمروا في تحقيق نسب مهمة من النمو في الصادرات عبر تزويد العالم بالعديد من السلع رغم الإغلاق؛ لذلك -في كلتا الأزمتين- أظهر "النموذج الصيني" قدرته على تقليل تأثير التهديدات الاقتصادية المحتملة بسبب إغلاق النشاط الاقتصادي. قبل الأزمة المالية، الفكرة المحورية وراء الابتكار المالي تكمن -حسب تصورهم- في أنها توزع المخاطر بشكل آمن على الذين يستطيعون تحملها من أجل حماية أولئك الذين لا يستطيعون تحملها؛ بفعل الأزمة تلاشى هذا التصور، يتعين على البنوك الكبرى الخضوع للمراقبة السنوية لمعرفة إذا كانت محافظ قروضها قادرة على تحمل التباطؤ أو لا. يتمثل أحد التغييرات الكبيرة التي حصلت بعد الأزمة المالية في قدرة المؤسسات المالية على الاحتفاظ بمزيد من رأس المال كاحتياطي يسعفها في زمن الانكماش المالي. كما استجابت البنوك من خلال التوسع والانخراط في المزيد من الأنشطة المالية بدل التركيز على القطاع العقاري. ويهيمن التكتل المصرفي الآن على البنوك في العالم. لقد اختفى سوق الرهن العقاري في شكله السابق الذي عرفه العالم عام 2008. كما أصبحت البنوك المركزية تدرك هشاشة وترابط أجزاء من النظام المالي.