ستنتقل الحياة برمتها إلى داخل البيت الصغير. تسحرك كلمة “البيت” كثيراً، وتظنها على زخمها الشعري والنوستالجي منطقة غير مكتشفة بالشكل المجرّد والعاري. في المربعات الصغيرة ستبدأ الماراثون اليومي، بين الصالون وغرفة النوم والمطبخ. الإقامة الجبرية بين الصحون والكتب والتلفزيون وشرب القهوة والبيرة أكثر الأحيان، ستتعرف إلى عائلتك من جديد، تقف أمام المرآة طويلاً، وتنظر بالوجه الذي أمامك، بالأخاديد التي غيرها الزمن.من الشباك ستحدق بالسنجاب الذي يقفز بلا هوادة من أعلى الشجرة، ولأول مرة ستكتشف الساقية التي تصبّ في البحيرة  آخر الشارع، تغير إيقاع السيارات وأصبح أكثر بطءا، ستتعلم فن الإصغاء للطبيعة وأشيائها، قارة من المفردات الجديدة والصور والحركات التي لم تكن مألوفة، ثلاثة أفراد كان يذهب كل واحد فيهم باتجاه، ولن يروا وجوه بعضهم إلا لماماً وعلى عجل، والموبايل الذي كان ينقذنا من الحنين خف رنينه. ستغط نيوجرسي في سكون يكاد ينكسر، قطعة جليدية صماء، تجعلك تسمع ضربات قلب جارك العجوز وهو يصعد الدرج. مشاهد رأيتها سابقاً على شاشة السينما. وهو بالتالي أقرب إلى كأس ماء يقع على بلاط صلب. والابتسامات العذبة للبشر الذين لا تعرفهم من قبل ستتغلف بكآبة لا مثيل لها. كل العادات اليومية ستنتقل إلى حيز ضيق ، حيث لا قطارات تعبر ولا طيور تحط على مائدة الغداء ولا بحيرات نصطاد في مياهها. الرجل السمين الذي يجلس على المقعد أمام البيت ويذكّرني أغلب الأحيان بأعمال مونيه النحتية الضخمة، فقط المرأة الستينية وتسكن إلى جواري، تدخّن أمام باب البناية بشراهة لا تنتهي، لم يتغير فيها شيء سوى بعض الجزع والنظرات الحذرة. ومن المجرة التي يقول كارل ساغان إننا ننتمي إليها، النقطة الزرقاء المعلقة في فجوة العدم،أتصفح كتاب “تاريخ العالم في ستة كؤوس”، يقسم مؤلف الكتاب توم ستانداج كل هذا التاريخ إلى بيرة ونبيذ ومشروبات روحية وقهوة وشاي وكوكاكولا.أبو العلاء المعري وإميلي ديكنسون استخدما فكرة المنزل وسقالاته كمجاز للحياة والحكمة.روبرت فروست في قصيدته “إصلاح الجدار” واحدة من أشهر قصائده تتعلق برغبة الجنس البشري بوضع حدود واضحة للمنازل والحدائق، هذه العلامات برأيه ارتداد إلى مرحلة سابقة في تطور البشرية. وكان يعتقد جاره أن “الأسوار الجيدة تصنع جيراناً جيدين”. بينما ربط ولاس ستيفنز بين الوقت المتأخر وفعل القراءة وهدوء المنزل وعزلة ساكنه.قصيدة  الشاعر اليوناني قسطنطين كافافيس أيضاً عن “المنزل” الذي يتحول ويتبدل بقوة الحب.يصبح البيت في قصيدة دبليو إتش أودن المكان الأسطوري للمتع البسيطة والكدح وامتداداً للذات، تستكشف القصائد غرفة النوم والحمام والقبو والعليّة والجنس والخوف والأمان الذي تحمله الغرف داخله.روث ستون تصف إقامتها في البيت الجديد الذي استأجرته  أيضاً:جسدكِ الثقيل يصعد الدرج في الظلام.لمبة حجرة الجلوس احترقت،في الشقة يميل جسدكِ على الجدار.لوحة ابنتكِ لملفوفة كبيرة ومزركشةتواجه سماءً مظلمة مع نقاط للنجوم.بينما النجوم تخفي عنفاً هائلاًفي الظلام أعلى منتصف اللوحة.الآن لم يقتصر بناء السياج حول حدود المنزل، بل أنت على وشك بنائه حول نفسكَ أيضاً، والشيء الوحيد المسموح به الآن هو أن تكون لوحدكَ. يبدو الأمر مثل مقطع مأخوذ من فيلم أو رواية، وفجأة سيصلك صراخ من هناك، وجلبة وردهات ومشاف كأنها مبنية على سطح المريخ، وبشر في البراري لا سقف لهم ولا سياج، الأسرّة في المشافي مشغولة على آخرها، صور آتية من أمكنة الزحام في الشرق الأوسط  أمام الأفران ومواقف الباصات. الأبخرة والدخان المتصاعد من الخيام المنتشرة على شواطئ الجزر اليونانية، والفناء الواسع للعدم حيث لا قاعات موسيقى أو رفوف كتب تلهو بها بروحك المعطوبة، والاكتفاء بالنظر إلى الشاشة لتفقد الأجزاء المتبقية لمدن الأرض التي أصبحت أقرب إلى خلاء مصنوع في أستوديوهات التصوير.