تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال: "لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما بايعت صاحب فتنة. ولا أيقظت مؤمنا من مرقده". وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين, وهو في الثالثة عشر من العمر, حين صحب أباه في غزوة بدر, راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان, من ذلك اليوم. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته إلى المدينة. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والإسلام. سنجد فيه حيثما نلقاه, المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة, ولا يخيس بعهد أعطاه. ومثابرته, كل هذه الفضائل والخصال, وحياته الطاهرة الصادقة. لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها. ومن ثم, ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر, كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي. فيصلي ابن عمر في ذات المكان. وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما, فيدعو عبدالله جالسا. وصلى ركعتين, فصنع ابن عمر ذلك إذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان. بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة, ويصلي ركعتين, وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها. ثم يصلي ركعتين للله. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله. ولقد أثار فرط إتباعه هذا, أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: "ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله, كما كان يتبعه ابن عمر". حتى لقد جاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول: "اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني, كي أقتدي به, حرفا. وقد قال معاصروه. من عبدالله بن عمر". !! " لا علم لي بما تسأل عنه" وذهب الرجل في سبيله, ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه: "سئل ابن عمر عما لا يعلم, فقال لا أعلم". كان يخاف أن يجتهد في فتياه, للمخطئ أجر وللمصيب أجرين, لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمع, وكانت تضمن لشاغرها ثراء, ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء, وللجاه, ؟! وطلب إليه أن يشغل منصب القضاة, " كلا. قاض يقضي بجهل, فهو في النار. وقاض يقضي بهوى, فهو في النار. وقاض يجتهد ويصيب, لا وزر, ولا أجر. واني لسائلك بالله أن تعفيني". وأعفاه عثمان, بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا. وانه ليخشى إذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه, وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من سمات السلبية. بيد أنه ليس كذلك, بل هناك كثيرون من أصحاب رسول الله الورعين الصالحين, ولا إلقاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه, كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال, وشرع إغراء المال والمناصب يقترب من بعض القلوب المؤمنة, ومنهم ابن عمر, يرفعون راية المقاومة لهذا الإغراء باتخاذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف عن المناصب الكبيرة, لقد كان ابن عمر, يقومه مصليا. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا. فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله, وأرادا أن يذهبا بي إلى النار, فتلقاهما ملك فقال: لا ترع, فخليّا عني. فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبدالله, لو كان يصلي من الليل فيكثر". وكان كأبيه, تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن. يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن عمر هذه الآية: فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)). ثم مضى يردد الآية: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)). ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه. ولقد كان جوده, وورعه, تعمل معا في فن عظيم, لتشكل أروع فضائل هذا الإنسان العظيم. !! وكان ابن عمر رضي الله عنه, من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة, وكان راتبه من بيت المال وفيرا. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط, وفي اليوم التالي, قالوا: بلى. ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره, خرج. ثم عاد وليست معه, ما تصنعون بالدنيا, ؟؟!! وعمر أباه, وزهده وورعه, وصدق البنوّة. حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على خف". والذي يذهب برأيه في بر أبيه وتوقيره والإعجاب به إلى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء, ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا. ولقد كانت الأموال تأتيه وافرة كثيرة. ولكنها تمر به مرورا. ولم يكن جوده سبيلا إلى الزهو, ومن ثم. فقد كان يخص به المحتاجين والفقراء. فلا بد أن يكون معه أيتام, وطالما كان يعاتب بعض أبنائه, وتدعون الجياع". فكانوا يجلسون في طريقه, كي يصحبهم إلى داره حين يراهم. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق. لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا, وكان وسيلة لضرورات العيش لا للترف. ولم يكن ماله وحده, فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا, ولا يسعى إليها, بل ولا يرجو منها إلا ما كان يستر الجسد من لباس, ويقيم الأود من الطعام. أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة, وقال له: وترتدي هذا الثوب الجميل. قال له ابن عمر: أرنيه إذن. انه قطن. وتملاه عبد الله قليلا, ثم دفعه بيمينه وهو يقول:"لا. اني أخاف على نفسي. !! وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا. وسأله ابن عمر: ما هذا؟ قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق. ؟؟ !! إن هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما, لم يكن يترك الشبع خصاصة, بل زهدا وورعا, ومحاولة للتأسي برسوله وأبيه. وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر شبيل. ولقد تحدث عن نفسه قائلا: ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم". " دخلت على ابن عمر, ولحاف وبساط. والتزام لمنهجه في الصدق والورع. وعاش في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع, ومع هذا, لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده. وإذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال: "لقد اجتمعت وأصحابي على أمر, واني أخاف إن خالفتهم ألا ألأحق بهم". ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا, لولا مخافة ربه لزاحم في الدنيا, فقد كانت الدنيا تسعى إليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها. وهل هناك كمنصب الخلافة إغراء. فازداد له رفضا, وعنه إعراضا. يقول الحسن رضي الله عنه: " لما قتل عثمان بن عفان, قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس, وابن سيد الناس, فاخرج نبايع لك الناس. لا يهراق بسببي محجمة من دم. قالوا: لتخرجن, فأعاد عليهم قوله الأول. فأطمعوه. وخوّفوه. فما استقبلوا منه شيئا". وفيما بعد. كان ابن عمر دوما هو الأمل, فيلح الناس عليه, كي يقبل منصب الخلافة, ويجيئوا له بالبيعة, ولكنه كان دائما يأبى. ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه إلى ابن عمر. بيد أن كان له منطقه وحجته. ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر. وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة, فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها, ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائين, مختارين, ويرفض الخلافة معه. لم يكن ذلك ممكنا. فان اتساع الأمصار, لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك. قال ابن عمر: ولم. ؟ فوالله ما سفكت دماءهم, ولا شققت عصاهم. قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان. ورجل يقول: لا, وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا, واستقر الأمر لمعاوية. حتى في ذلك اليوم, كان لا يزال أمل الناس, وأمل الخلافة. فانك سيد العرب وابن سيدها. قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا. ويقتل بسببي رجل واحد". فانصرف عنه مروان وهو ينشد: يعني بأبي ليلى, هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية, "من قال حي على الصلاة أجبته. ومن قال حي على الفلاح أجبته. فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه بتحديات أوجعته وأربكته. وقف الحجاج خطيبا, كذبت, كذبت". وسقط في يد الحجاج, وصعقته المفاجأة, ولوح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج, !! ولكنه برغم قوته وجرأته ظل إلى آخر أيامه, يقول أبو العالية البراء: وهو لا يشعر بي, يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر, وكان ينفجر أسى وألما, حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم. !! ولو استطاع أن يمنع القتال, ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه, بل وكان معه يقينه فيما يبدو, حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه: " ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا إلا أني لم أقاتل مع عليّ, الفئة الباغية". !! على أنه حين رفض أن يقاتل مع الإمام علي الذي كان الحق له, وكان الحق معه, فانه لم يفعل ذلك هربا, والفتنة كلها, وتجنبا لقتال لا يدو بين مسلم ومشرك, بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا. ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن,