عندما زرت فنلندا لأول مرة العام الماضي، استقبلني – استقباالًرائعاً- صاحب الدعوة صديق الطفولة المهندس علي حلمي،ولأنه يعلم جيداً، بأن زيارتي من أجل السياحة، وضع لي برنامجاً لزيارة أهم الأماكنالأثرية والثقافية، وبالأخص المتاحف!! لذلك كانت زيارتنا الأولى إلى جزيرة حصن فنلندا المعروفة باسم »سوامنلناSuomenlinna«، وهي مجموعة جزر – تتبع العاصمة هلسنكي – وهي حصن رادع ألي هجوم يأتي من البحر. وهذه الجزيرة بتحصيناتها الحربية، بما فيها من مظاهر تحصين وأسوار ضخمة، وبوابات فوالذية، بالإضافة إلى مجموعة متاحف حربية، تروي قصة تاريخ فنلندا العسكري،فهيا بنا نتعرف على هذا الحصن وما فيه:جزر للبيع الاصطيافبدأت الرحلة من ميناء صغير في مركز العاصمة هلسنكي أمام القصر الرئاسي، مع مجموعة من الزائرين، وهذه الرحلة البحرية، استغرقت حوالي ربع الساعة. وطوال الرحلة، وأنا معجب بكم الجزر الصغيرة المتناثرة حولنا، وتوقفت بنظري عند مجموعة من الجزر، مساحتها أقل من ألف متر مربع، وفي وسط كل منها منزل خشبي – على هيئة كُشك أوفيال صغيرة – ويشغل هذا البناء معظم مساحة الجزيرة!! كما يوجد قارب بخاري صغير مربوط بحبل، قيل لي: إن فنلندا بها آالف الجزر الصغيرة،كنيسة بال تماثيل أو صوروصلنا إلى جزيرة الحصن، كان كنيسة قديمة تراثية، وعلى الفور قررت دخولها وتصوير الكنوز التي بداخلها؛ ظناًمني إنها تتشابه مع كنائس مدينة كراكوف في بولندا التي تحدثنا عنها سابقاً؛ ولكن المفاجأة كانت صادمة!! فكنيسة سوى: مقاعد خشبية طولية للزائرين ال يتناسب مع حجم الكنيسة ومكانتها!! وكرة أسياخ حديدية بها شموع مضاءة، ولوحة تعريفية بتاريخ المبنى . هذا وصور القديسين والاباء والقساوسة، وأين الأيقونات والنقوش والزخارف . وأين وأين .سمعت ثالثة أسباب تبرر هذه الظاهرة: األول، إنها كنيسة داخل حصن حربي، يُصلي فيها الجنود المدافعين عن البلد؛ لذلك ال نريد لفت أنظارهم أو انشغالهم بأشياء داخل الكنيسة، وعن مهمة الدفاع عن الوطن، فيعود إلى أن أهل فنلندا قديماً، كانوا يتعاملون مع الدين بصورة روحية عميقة، إلخ،سواء بالنحت أو الرسم أو التصوير أو الزخرفة!! أما السبب الثالث والأخير – والذي يعضد السبب الثاني - فيقول: إن هذه الكنيسة كانت في الأصل أرثوذكسية،إلى المذهب اللوثري الخالي من التماثيل الايقونات والزخارف . إلخ، وهو التفسير المنطقي تاريخياً!! المتحف الحربي وملحقاتهخرجنا من الكنيسة، جمعت مقتنيات كثيرة، حول قادة فنلنداوجنودها في الحروب، التي خاضتها. ومن هذه المقتنيات، مستطيل مثبت عليه مجموعة كبيرة من النياشين العسكرية، التي نالها القادة العسكريين، مع مجموعة صغيرة من صور حقيقية لاصحاب البطولات، فعلى سبيل به الآتي: ملابسه العسكرية الكاملة، وشهادتين رسميتين، وأربعة نياشين، وحافظة نقود، وسلسلة مفاتيح، وسلسلة أخرى بها القطعة المعدنية التعريفية، والتي بها بيانات من يرتديها من الجنود أثناء الحروب!! كل هذه مقتنيات عادية،لتعرض مقتنياته بهذا الشكل المميز؟! وقبل أن أسأل، شاهدت الدليل بنفسي!! إن هذا البطل، كان يحارب ويقاتل بأطراف صناعية سفلية، حيث بُترت قدماه في الحرب،ورفض الخروج من العسكرية، فتم تركيب أقدام صناعية له، مع مجموعة صور فوتوغرافية تبين تركيبها، لذلك كان يجب أن تُوضع مقتنياته بالمتحف،لاحظت أيضاً مجموعة من التماثيل البشرية بحجمها الطبيعي، مرتدية الملابسالعسكرية باختالف نوع الزي، تبعاً لاختلاف نوع السلاح!! ومسألة الزي العسكري، حيث وجدت مجموعة كبيرة من مقتنيات القادة العسكريين معروضة، وبالأخص «البدلة العسكرية الكامله»، وهذه المقتنيات موجودة في غرف زجاجية متجاورة على جانبي قاعة المتحف. والملفت للنظر أيضاً في هذه الغرف، الاهتمام الواضح بالمرأة!! حيث وجدت مجسمات لمجندات بمالبسهن العسكرية،ومنشوراتهن العسكرية. فبها نماذج لأسلحة حقيقية، مثل السيارة المدرعة، وعربة نقل طعام الجنود أثناء الحرب،رواق به أربعة عشر تمثالاً نصفياً للقادة العسكريين.عليها ملخص لسيرة صاحب التمثال. وفي القاعة، وجدنا نماذج مصغرة للسفن الحربية،والأسلحة والملابس والأدوات المستخدمة في الحروب أوقات الشتاء، معروض فيه مقتنيات الجندي الكاملة أثناء الحرب في الشتاء، ومن أهمها: الجوارب والقفازات، والسجائر والبايب وأعواد الثقاب، وأدوات الطعام المحمولة، مثل: علبة الطعام المغلقة بإحكام – بينهما . إلخ!! ومن الأسلحة المميزة المعروضة، نماذج من المسدسات، ومعلقة وشوكة معاًدون فصل والأمر نفسه بالنسبة للسفن والدبابات.المعايشة العسكرية األولى بها مجموعة دواليب بجوار بعضها البعض، ولكنها خاصة بالجنود والضباط. ومن الواضح أنها الدواليب الحقيقية لفرقة من الجنود – رغم ترميمها وإعادة دهانها – وما على الزائر إال أن يفتح أي دوالب، ليجد وصور أدواته التي كانت موجودة في تجعلك تتعايش عسكرياًمن الجنود في أدق خصوصيات حياتهم اإلنسانية!!مربعات داخل دوالب كبير مفتوح، والخوذة أو الطاقية العسكرية »البيريه«، هيالمالبس الحقيقية للجنود أصحاب الصور الموجودة في المربعات!! وألنهم جنود فقط -وليسوا ضباطاًكباراً- لم توضع أشياؤهم في معروضات المتحف، بل وضعت هنا،لقد الحظت أن في الغرفة مجموعة من المرايات الطولية، فكيف تحقق هذا األمر؟!!شديداًمن الزائرين حول هذه المرايات، مع سماع صيحات اإلعجاب. وجدت أحد الزائرين مرتدياًالخوذة والمالبس العسكرية الموجودة في أحد المربعات، ووقف يشاهد نفسه في المرآة بإعجاب!! هنا ظننت أن هذا الزائر عبث بمقتنيات المتحف، واستهجنت فعلته!! ولكن هذا االستهجان تالشى عندما وجدت األمر به زي عسكري معين يريد ارتداءه؛ ألن كل من يرتدي شيئاً، وهو معايشة الشباب والجيل الحالي وترويجاًلها وألهميتها للبالد!! فكم من شاب ارتدىالمالبس العسكرية، التي ارتداها آباؤه وأجداده، وتمنى أن يكون فرداًمن القواتالمسلحة!! هذا الشعور القومي، وهذا التعايش الطريف، جعلني أخوض التجربة، فقمت بارتداء أول مالبس عسكرية وجدتها أمامي، والتقطت بها صورة للذكرى!!خرجنا من قاعات المتحف إلى شوارع الجزيرة، وجلسنا في استراحة رائعة الجمال، فوجدته يقول:إن الجزيرة غير مستغلة سياحياً كما يجب!! فقد كان هناك استبيان لمحافظة هلسنكيعام 2017، حول كيفية تطوير وسائل الإرشادات لزائري الجزيرة، فكتبت وجهة نظري، بضرورة جعل الجزيرة متحفاً مفتوحاً، بداية من كشك التذاكر على أن تحملا لتذكرة صورة الحصن! والمركب الذي يستقله الزائرون من الميناء إلى الجزيرة، يرتدون الملابس التراثية، التي كانت موجودة في العصور الوسطى، مع وجود أسواق قديمة للاشغال اليدوية، أيام كانت الجزيرة حصناً عسكرياً فيالماضي!! هذا ما رواه لي صديقي أثناء الاستراحة. وعندما خرجنا لالنتقال إلى آخر متاحف الجزيرة، دُهشنا من هول المفاجأة التي رأيناها!! فقد شاهدنا جنديين يسيران أمامنا بملابس جنود العصور الوسطى، ذات خنجرفي المقدمة، وهي من النوع نفسه المستخدم في القرون السابقة!! كما وجدتهما يقفان وسط الزائرين ليتم التقاط الصور التذكارية معهما!! فالتفت إليّ صديقي، قائلاً: الحمد لله إن فكرتي التي ذكرتها في استبيان البحث الميداني منذ عامين، تم تطبيقها، وشاهدتها بنفسي!!الجميل في الأمر، إننا شاهدنا تأكيداً آخر على تطبيق الفكرة، مع تطويرها؛تمثلت في وجود فتيات بمالبس العصور الوسطى، وهي: الفستان الطويل ذي الطبقات الكثيرة، مع البرنيطة المربوطة بشريط ستان تحت الذقن! حتى مساحيق التجميل المستخدمة في »المكياج«، كانت بأسلوب القرون الماضية!! هذه الفتيات، مهمتهن تمثلت في: قيام كل فتاة بتجميع الأطفال المصاحبين لعائلاتهم أثناء زيارتهم السياحية للجزيرة، وتقف الفتاة وسطهم بملابسها التراثية، وتبدأ في رواية تاريخ الجزيرة، وتاريخ حروبها بأسلوب بسيط يفهمه الأطفال، ويجذبهم بصورة مشوقة نحو تاريخهم وآثارهم!!متحف الغواصة الحربية