فأما أمر كسوته فقد تركه إلى الله لأن مرتبه لم يكن يتسع له. وأنفق السنة الأولى من حياته في باريس لا يخرج من بيته إلا إلى السوربون، ولم يذكر قط أنه اختلف إلى قهوة من قهوات الحي اللاتيني التي كان رفاقه الجادُّون يلمُّون بها بين حين وحين. وكيف السبيل إلى غير ذلك وهو لا يستطيع أن يذهب وحدَه إلى حيث يريد، وهو مُخيَّرٌ بين أن يقبل ما يكره من غيره من الذين كانوا يعينونه على ما يريد أو يرفضه، وكيف السبيل له إلى أن يذهب إلى السوربون ليسمع الدروس فيها إذا لم تُعنه على ذلك هذه السيدة التي لم يكن من معونتها بدٌّ، والتي كانت ترفق به أحيانًا وتعنف به أحيانًا أخرى؟ وربما صحبته من البيت إلى الجامعة بدون أن تُلقي إليه كلمة أو يسمع لها صوتًا، ومضت به إلى بيته، على أن عجز الفتى لم يكن مقصورًا على ذَهابه إلى الجامعة وعودته منها، وكان شرطه حين سكن في البيت الذي أقام فيه ألا يشارك أهله في طعامهم، وإنما يخلو إلى طعامه الذي يحب أن يُحمل إليه في غرفته حين يأتي وقته، فكان الطعام يحمل إليه ويوضع بين يديه ثم يخلى بينه وبينه فيصيب منه ما يستطيع لا ما يريد، ولكن الله رفق به بعد ذلك فأتاح له من كان يهيئ له طعامه ويعلمه كيف يرضي منه حاجته. وهو هذا الرباط السخيف الذي يديره الناس حول أعناقهم ثم يعقدونه بعد ذلك من أمام عقدة يتأنقون فيها قليلًا أو كثيرًا! وقد هيئت عقدتها فليس محتاجًا إلى أن يتكلَّف عقدها وتسويتها والتأنق القليل أو الكثير فيها. وربما اتخذ منها رباطًا واحدًا يديره حول عنقه في كل يوم ويمضي على ذلك الأسابيع المتصلة. وسبيل هذا الإعداد أن يقرأ في أقصر وقت ممكن ما كان التلاميذ الفرنسيون ينفقون الأعوام الطوال في درسه بمدارسهم الثانوية، واستطاع في وقت قصير أن يحصِّل من هذا كله ما يحصِّله التلميذ الذي كان يتقدم إلى الشهادة الثانوية مطمئنًّا إلى أن الممتحنين لن يردوه عن هذه الشهادة خزيان أسفًا. واختار لنفسه أستاذًا من أساتذة المدارس الثانوية يعلمه اللغة الفرنسية تعليمًا منظمًا، وما أكثر ما كان الأساتذة يسخرون من طلابهم إذا كتبوا لهم الواجبات فقصروا في بعض نواحيها! وكان الأساتذة يقرءون بعض هذه الواجبات، ولكنه تعرَّض ذات يومٍ لشرٍّ منها؛ » وكان لهذه الكلمة وقعٌ لاذعٌ في نفس الفتى أمضَّه بقية يومه، وكلف نفسه في هذا الدرس من الجهد الثقيل والعناء المتصل ما كاد يصرفه عن غيره من الدروس، وبينما كان الفتى يُمتحن بأثقال هذه الحياة المادية والعقلية العسيرة، ألمت علة طارئة بصاحبة ذلك الصوت العذب الذي كان نعيمه الوحيد في حياته الشاقة المظلمة، وليس من شكٍ في أن نفسه كانت قد تعلقت بذلك الصوت العذب ثم بصاحبته منذ وقت طويل … وإلا فما جزعه حين اضطر إلى العودة إلى مصر؟ وما ابتهاجه بهذه الرسائل التي كانت تصل إليه؟ وما شوقه العنيف إلى العودة إلى فرنسا ليسمع فيها ذلك الصوت؟ وما خروجه عن طوره حين وجد الرسالتين اللتين كانتا تنتظرانه في نابولي؟ وما إلحاحه على صاحبه الدرعميِّ في أن يقرأ عليه هاتين الرسالتين مرة ومرة ومرة حتى أملَّه؟ ثم ما حرصه على أن يسمع هذا الصوت في باريس؟ وما نزوله في بيته ذاك الذي كان يسمع فيه هذا الصوت يتردد في كل ساعة من ساعات النهار، ويلقي عليه تحية المساء حين يتقدَّم الليل ويأوى أهل البيت إلى مضاجعهم، وأن مثل هذا الشعور لم يُخلق له … وأين هو من الحب؟ وأين الحب منه؟ مُحرمًا على نفسه ما أباح الله للناس من طيبات الحياة. وليس غريبًا بعد ذلك أنه لم يجد حزنًا ولا شقاءً ولم يحسَّ لوعةً ولا ألمًا حين بلغ مسمعه الردُّ على كلمته تلك موئسًا مقنطًا، قد وطن نفسه عليهما وعزَّى نفسه عنهما بما كان يمعن فيه من الدرس والتحصيل. وهو قد انصرف عن صاحبته في ذلك اليوم راضيًا عن نفسه ساخطًا عليها. لأنها قالت ما لم يكن بدٌّ من أن يقال، لأنها عرضته بهذه الكلمة لشر عظيم، ولم يكد يذوق فيها للحياة طعمًا. وإنما هي تلقاه كما تعوَّدت أن تلقاه رفيقةً به عطوفًا عليه، وإنما يكمن في مستقره من أعماق الضمير. ثم تأخذ في القراءة حتى إذا أتمتها وهمت أن تنصرف قالت له في رفق: وإذن فماذا تريد؟ فاصبر حتى إذا كان افتراقُنا فستتصل بيننا الرسائل كما تعوَّدنا أن نفعل،