ونستهديه ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اتَّقوا الله فإنَّ تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلَف الأمّة والصَّدر الأول، واشكرُوه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، فما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]. تعيش البيوت المسلمة أزمةً طاحنةً من جرَّاء الامتحانات التي تطرق الأبواب بين الفينة والأخرى . وحالما يقترب موسم الاختبارات حتَّى ترى كثيراً من البيوت قد أعلنت عن حالة التأهب القصوى والاستعداد الكامل والاستنفار المتحفِّز، لدخول معمعة الامتحان التي يكرم المرء فيها أو يهان ! وهذا جهدٌ مشكور، وخلُص المقصِد لله ربِّ البرية، ولكننا لو تأملنا هذا الاهتمام المبالَغ فيه من أجل هذا الامتحان الهيِّن الدُّون، ثمَّ قلَّبنا البصر إلى ضعف الاستعداد وقلَّة الاهتمام وشدَّة الغفلة عن ذلك الامتحان الرهيب الذي خلقنا الله تعالى من أجله وأنشأنا له، لرأيت البصر ينقلب إليك خاسئاً وهو حسير. وضربٍ من ضروب العلم. كما أنَّ الكبائر مدوَّنة فيه. قال تعالى: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر: 53]، والكُتَّاب يكتبون، ويوم القيامة يخرجُون ما كانوا يحصون ويستنسخون، ويبدو ما كان مخبوءاً من ذنوبٍ وعصيان، ثانيًا/الأسـئـلة: امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها. عن كلِّ كبير وصغير وعظيم وحقير، قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92- 93]. قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) [الصافات: 24]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وماذا عمِلَ فيما عَلِمَ". وكُلُّكُم مسئولٌ عن رعيَّتهِ، فالإمامُ الذي على النَّاسِ راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيَّته، والرَّجلُ راعٍ على أهلٍ بيتِهِ وهو مسئولٌ عن رعيَّتهِ، والمرأةُ راعيةٌ على أهلِ بيتِ زوجِها وولدهِ وهي مسئولةٌ عنهُم، ولو أنَّا إذا مِتنا تركنا *** لكان الموتُ غاية كلَّ حيٍّ والأنوار ساطعة، والمكيفات باردة، وموقفٍ عصيب، وتقشعرُّ منها الجلود، قال تعالى: (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) [المزمل: 17]، حفاةً بلا أحذية، غرلاً بدون ختان. والبحار سجِّرت، فالميزان منصوب، والشهود تشهد، والصحائف تنشر ! وإلى الله يومئذِ المستقر! فأين المفر؟! قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30]. رابعًا/ الزمـان: امتحان الدنيا إن طال زمانه وامتدَّ أوانه فهو في ساعةٍ من نهار، أما امتحان الآخرة فهو في: (يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج: 4] قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47]. وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل بما فيه من خطبٍ جليل، وعلى أعمارهم متحسِّرين : إنما هو زمنٌ يسير ! وعمرٌ قصير! ثُمَّ كان إلى الله المصير ! قال تعالى: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون: 112- 116]. والعاقل الحصيف يعلم علم اليقين أنَّما هي بضع سنين أو أقلُّ من ذلك أو أكثر، ثمَّ يقبر، ثمَّ ينشر، والأعمال الصالحات والمسابقة في الخيرات قبل أن تأتيه المنيَّة خامسًا/ المـراقب: ينسى ويغفل، ويسهو ويتنازل، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان! أمَّا الرقيب على امتحان الآخرة ـ وله المثل الأعلى ـ فهو الذي لا يضلُّ ولا ينسى، قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، لا تخفى عليه خافية، فأين تغيب عن سمعه وبصره ؟! وهو السَّميع البصير! وأين تهرب عن علمه ونظره ؟! وهو العليم الخبير ! امتحان الدنيا نسبة النجاح فيه عاليةٌ جداً! فربما بلغت ثمانين بالمائة، وربما وصلت إلى تسعين بالمائة، بل وربما بلغت النسبة إلى أعلاها والدرجة إلى منتهاها ! أما امتحان الآخرة فنسبة النجاح فيه قليلة جداً ! فلا أقول: واحدٌ في العشرة! ولا أقول: واحدٌ في المائة ! وإنما هي: واحدٌ في الألف!! فيا للهول! تسعمائة وتسعةُ وتسعون إلى النَّار بعدلٍ من الله وحكمة !و واحدٌ إلى الجنَّة بفضلٍ من الله ورحمة ! اللهُمَّ لطفك ! يا لطيف . عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ قَالَ يَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ قَالَ فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قَالَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تسعمائة وتسعة وتسعين وَمِنْكُمْ رَجُلٌ قَالَ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأسود" يا جنَّة الرحمن ليس ينالها *** في الألف إلاَّ واحدٌ لا اثنانِ فرحماك اللهُمَّ وفضلك ! وجودك اللهُمَّ وكرمك ! النجاح في امتحان الدنيا مؤدَّاه أن يرتقي العبد في مراتبها ويعتلي في درجاتها . أو موضِعُ قدَمٍ مِنَ الجنَّةِ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها، ولو أنَّ امرأَةً مِن نساءِ أهلِ الجنَّةِ اطَّلعت إلى الأرضِ لأضاءَت ما بينهُما، ولنَصيفُها ـ يعني الخمار ـ خيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها ". أمَّا نجاح الآخرة فهو الزحزحة عن النَّار، والدخول إلى الجنَّة، وتثبت على الصراط أقدامه، فيأمن يوم الفزع الأكبر جنانه، فيرفع كتابه فوق رأسه، ويستعلي بصوته، وبهجة وحبور (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) [الحاقة: 19- 22]. وجيد جداً، وممتاز كذلك يوم القيامة، ثُمَّ يكون التفاوت في الدرجات والتمايز بين أهلها في النعيم والخيرات، على حسب أعمالهم الصالحات، فتزيد الدرجات كلما زادت الطاعات والحسنات عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، والفردوسُ أعلاها دَرجةً، ومِن فَوقِها يكونُ العرشُ، فجدَّ، ثامنًا/ الرسوب: الإخفاق في امتحان الدنيا هيِّنٌ سهلٌ، فهو خسارةٌ لدرجة أو مرحلة أو مرتبة من دنيا لا تساوي عند الله الذي خلقها وسوَّاها جناح بعوضة . وألم لا ينفذ، وندم لا ينقطع، وعذاب لا ينتهي، لا يصلاها إلاَّ الأشقى، فيخسر نفسه وأهله وماله. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 15] ، لينعم بما تلذُّ به الأعين، وما تشتهيه الأنفس، ويطرب له السمع، ثُمَّ يقاد هو ـ في ذِلَّةٍ وصغار ومهانةٍ وانكسار ـ إلى نارٍ وقودها النَّاس والحجارة، حيثُ العقاب والعذاب، والبلاء والشَّقاء مما لا يخطر على البال، ولا يوصف بحالٍ من الأحوال والخسران الأكبر، أن يحرم العبد من لذَّة النظر إلى وجه الله الكريم في الجنَّة يوم المزيد والنظر إلى وجه العزيز الحميد . وكما يرجع الطالب الخائب باللوم لنفسه، والتقريع والتوبيخ لها، ويتمنون أن يعودوا ليجدُّوا ويجتهدوا . يُعذَّبون بها ويصلون سعيرها ويحرَّقون بحرارتها ينادون وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل غير الذي كنَّا نعمل فيأتيهم التقريع والتوبيخ الذي يزيد في حسراتهم، والجزاء في يوم الجزاء: (فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37]. تاسعًا/ فرصة التعويض: ويخفق في الامتحان . ولعلَّ في ذلك خيراً كثيراً لا يدركه، وفضلاً عظيماً لا يعلمه . فكم من بابٍ أغلق في وجه صاحبه، وكان الخير في غلقه، عباد الله: رحلة العمر انتهت، وفرصة الزرع انقضت، ! وفاز بالغنائم طُلاَّبها،