ضرب الليل رواقه على الصحراء وكساها رداء من السكون، فصارت قطعة سوداء مظلمة، لا يكاد الساري فيها يرى رفيقه، وحركة النملة إذ تسير . ويظهر فيها بدوي ملتف في رداته مطلوب هارب، وكأنه وكان صفوان بن المعطل السلمي قد تخلف لبعض حاجته عن جيش الرسول، وهو عائد من غزو بني المصطلق إلى المدينة؛ وهو الآن يطلب القوم ليلحقهم، ويقفو أثرهم ليسير معهم، ولكنه يلمح في سيره شخصاً ملتفا في ثيابه، وما كان أشد ذهوله وأعظم دهشته حينما تبين الشخص، فإذا هو عائشة أم المؤمنين مغرقة في نومها، فصاح : إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة (۳) رسول الله ﷺ فاستيقظت عائشة مذعورة على ترجيعه وصوته، وخمرت وجهها بجلبابها فقال لها : ما خطبك يرحمك الله ! فما استطاعت أن ترد عليه جواباً، وانطلق يطلب رسول الله، حتى أدرك القوم معرسين (4) في الظهيره وسألها رسول الله : ما خَطْبُها؟ وقيم تخلفها ؟ قالت : سمعتك ليلة الأمس تؤذن في القوم بالرحيل، فذهبت لقضاء بعض شأني، ولزمت مكان رحلي، لعكلم إذ تتفقدونني فلا تجدونني تعودون في طلبي، ثم ضرب الله على أذني فنِمْتُ، وما استيقظت إلا على صوت صفوان وصدقها رسول الله في حديثها، ولم يخالطه الشك في أمرها؛ إذ هي عائشة بنت أبي بكر في شرفِ منبتها، وطهارة عرقها، وكرم دخلتها حصان رزان ما تُزَن (٢) بريبة عقيلة حي من لؤي بن غالب مهذبة قد طيب الله خِيْمَها ويتهمونها في صفوان . قال عبد الله بن أبي حينما رآهما : والله ما نَجَتْ منه، ولا نجا منها! وقشت هذه القالة بين الناس، وَحَمْنة بنت بخش، والداني والبعيد. وشكهم ويقينهم، ولم يقع لها كلمة مما خاض فيه الناس، وتلمست الشفاء، والرحمة المبسوطة الجناح؛ وضاعف من علتها . ولا يحفل بشأنها؟! ذلك ما لا تعرفه عائشة، ولا تستطيع أن تربط فيه علة بمعلول، وأذن لها، تُعاني المرض وتحتمل الدام حتى أبلت من مرضها واستفاقت من علتها وخرجت يوماً إلى فُسح المدينة ومعها أم مسطح بنت أبي رهم، وإنهما ليمشيان إذ عثرت أم مسطح في مِرْطها (۱) فقالت : تَعِس مسطح ! قالت عائشة : بئس - لَعَمْرُ الله - ما قلت لرجل شهد بدراً! قالت لها : أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قالت عائشة : وما الخبر؟ فحدثتها بما كان من أصحاب الإفك، وما أذاعه ابن وما تزيدت فيه حمنة بنت جحش قالت عائشة : أوكان هذا؟! قالت : نعم ، والله كان . وانكفات (۲) إلى البيت تبكي ما ترقا (۳) لها دمعة، ثم قالت : يا أماه يغفر الله لك، ولا تذكرين من ذلك شيئاً؟! قالت : أي بنية، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها ولها ضرائر، ولم تتح له الرؤيا، وتزحمها في مكانتها - فقالت: أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيراً. وسل بريرة جاريتها تصدقك الخبر . فقال لها رسول الله ﷺ: هل رأيت شيئاً يريبك؟ فقالت : لا ، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن العجين، ولم ير في حديثهم شيئاً يَزِن عائشة أو يَصِمُها (۳) ، فخرج إلى الناس مغضباً، ويقولون عليهم غير الحق ؟ والله ما علمت منهم إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي ؟ ثم ذهب إلى عائشة في منزل أبيها، وقال: يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول للناس، فإن كُنت قد قارفت (٤) سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده . ولكنها لم تستطع جواباً، ثم التفتت إلى أبيها، وقالت : أجب عني رسول الله . فقال: والله ما أدري ما أقول فالتفتت إلى أمها وقالت : أجيبي عني رسول الله، فقالت :والله ما أدري ما أقول . ثم استعبرت - رضي الله عنها - وقالت : والله لا أتوبُ إلى الله مما ذكرت أبداً، والله يعلم إني منه البريئة، ولئن أنكرت ما يقول الناس لا تُصَدِّقوني. فأطرق رسول الله، وَوَجَم (۳) أبو بكر ، وتنهدت أم رومان، فَسُجِّى (1) بثوبه ووضعت وسادة تحت رأسه، فترقبت ربيطة الجأش ساكنة الجوارح؛ واثقة من نزاهتها، وطهارة ذيلها . وكانت تتزايل أعضاؤهما من الجزع،