ماتت زوجته منذ أعوام وخلفت له ابنا وحيدا , وكان شابا جميل التكوين , تلمع عيناه ذكاء ونشاطا , علمت أن الابن مات قتيلا تحت عجلات القطار. وقدم لي كالمعتاد فنجانا من قهوته الريفية ولكنه كان يعمل كالألة الميكانيكية بلا روح , وكنت أحس وهو يتكلم كأنه يفتش عن الموضوعات في حيرة , ذلك الذى كان لا يعوزه طلاقة ولا بيان , وكانت تعتريه نوبات صمت ووجوم , ولما إنتهت زيارتي هززت يده طويلا في صمت هزة العطف والاخلاص , وكنت دائما أسأل عن الشيخ عساف , فيخبرونني أنه قليل الخروج من منزله , فاذهب اليه بدافع خفي , فازداد وجهه شحوبا وتجهما وقل حديثه وأصبح جافا مقتضبا . ورأيت منسجه غارقا في صمته ووحدته وانقباضه , وبعد تناول القهوة رفع رأسه وسالني قائلا : ألا تستطيع أن تخبرني ياسيدى بما يحس به الشخص الذي يموت قتيلا تحت عجلات القطار , ولكن قلت له : أظن أنه لا يحس بشىء . أنها ميتة سريعة ! فجهر بصوته وقال في تاكيد : إنه يتالم أشد الالآم. وأحمرة عيناه المربدتان , وظل هكذا في صمته ثم هدا تدرجيا , ومرت الأيام أيضا وتكررت زياراتي للضيعة و الشيخ عساف ينحدر من سيىء الى السوأ حتى صار كالهيكل , وكان اذا سار قليلا ظهرت عليه بوادر الاعياء . ومكثت مرة في الضيعة أسبوعا رأيت في خلاله الشيخ عساف مرة واحدة . وكنت في الحديقة بمفردي تاركا نفسي تسبح في خمولها بعد يوم كله كد وتعب , وكان السكون الفظيع يخيم على المكان . حياني الشيخ وجلس أمامي وهو ينهج من المسير , وبعد أن استراح قليلا بادرني بقوله : قصدتك في حاجة . ؟ كم تطلب ؟ اتسمح لي بمرافقتك غدا ؟ وابتسم ابتسامة خفيفة وقال : أريد أن أرى الدنيا . ان أتفرج على خلق الله وعلى المدينة الكبيرة التي لم أرها الا مرة في حياتي . هل في طلبي هذا ما يثير العجب ؟ وكان يتكلم بلهجة متزنة رقيقة , وقد بدأ وجهه يشرق اشراقه القديم , وأمسك يدي وجعل يلاطفها في الحاح وهو يقول : الا تجيبني الى طلبي . ؟ فلمعت عيناه وقال : يسرني جدا . ولم يطل مكوثه معي إذ حل عليه الوخم سريعا فاعفيته من جلسته وقام وهو يشكرني , ويكرر لي عزمه على مرافقتي . وكان في يمينه عصا طويلة لينة يستعملها { كرباج } وصعدت الى العربة أنا وناظر الزراعة وانتظرنا مجىء الشيخ عساف . ولما طال بنا الانتظار قال لي الناظر : أن الرجل لن ياتي على ما اظن , وما كادت العربة تتحرك حتى سمعنا صوتا متقطع الأنفاس ينادينا , فالتفت فاذا بـــالشيخ عساف يجري صوبنا ـ حسبما تساعده قوته ـ وهو يشير علينا بأن نتوقف . فأمرت الحوذى بأن يقف وجاء الشيخ عساف , وسرنا وبدأ الشيخ يستعيد قوته , وبذل ما فى وسعه ليسامرنا ولكنه أخفق , إذ كانت موضوعاته مشوشة مبتورة , وكان ينسى نفسه فيستغرق في وجوم عجيب وتصيبه الرعدة في بعض الأحيان كأنه مقرور أو محموم . وجلسنا ننتظر القطار , ولاحظت عليه شيئا من امتقاع اللون , وأخرجت ساعتي وقلت : لم يبق على وصول القطار إلا خمس دقائق .