لقد بَعُد صوت الكروان قليلًا قليلًا حتى انقطع ولم يبلغني منه شيء، وعاد الليل إلى سكونه الهادئ الثقيل، وهذه الدقات المضطربة المختلفة تصدر عن هذا القلب الحزين … وأنا آخذ نفسي بالهدوء لأُلائِم بينها وبين ما حولها فلا أوفق لبعض ذلك إلا في مشقة وعناء، وأرى ترفًا وكلفًا بالجمال والفن، وأنا أمدُّ عيني إلى المرآة أمامي وأثبتها في أديمها الصافي الصقيل حينًا فتعود إليَّ بصورة إلا تكن رائعة بارعة، فإنها لا تخلو من رُواء ونضرة وحسن تنسيق، وما لي أسأل عن صورة هذه المرآة الجامدة الهامدة التي لا تحسُّ شيئًا ولا تشعر بشيء ولا تعرب عن شيء، وإني لأرى صورتي مرَّات ومرَّات في غير مرآة من هذه المرايا الحساسة الشاعرة البليغة التي تحسن الإفصاح عما في النفوس، وهي العيون! ثم تعود إليَّ مرَّة أخرى فتثبت في وجهي لا تكاد تنصرف عنه، ولا أكره ما أجد من الشعور، وإنما أسأل نفسي: أأنا صاحبة هذا كله؟ أأنا المالكة لهذا كله؟ أأنا صاحبة هذه الصورة التي تردُّها إليَّ المرآة، ثم أنا أفكر غير طويل فإذا أنا أستطيع، جميلة الزي، فلا أكاد أفتحها حتى تمتلئ نفسي روعةً وجلالًا لهذه الأشجار النائمة، وكل هذا لي ملك خالص لا يشاركني فيه أحد، ومتى شئت، لا يسألني أحد عما أفعل! فإذا اجتمعت في نفسي صور هذا النعيم كله أحسست راحة وأمنًا وثقة، ثم لا ألبث أن أحس شيئًا من الكبرياء الغريبة؛ لأني لا ألبث أن أرى صورتي منذ أكثر من عشرين عامًا حين كنت صبيَّةً بائسة يائسة، قد شوَّه البؤس واليأس شكلها وألقيا على وجهها غشاءً كئيبًا من الدمامة والقبح، لا ألبث أن أجد هذا الحزن اللاذع العميق حين أذكر هذه المأساة التي كنت أتحدث بها منذ حين إلى هذا الطائر العزيز، إن في أحداث الحياة وخطوبها لَعظاتٍ وعبرًا! إني لأتحدث الآن إلى نفسي حديثًا ما كان يمكن ولا يُنتظر أن تتحدث به إلى نفسها تلك الفتاة التي كان الناس يسمونها آمنة، أو من أهل هذا الريف المصري الذي يشبه البادية؛ لأنه منبث في أطراف الأرض الخصبة مما يلي الصحراء الغربية، أو مما يلي هذه الهضبات التي يسميها أهل مصر الوسطى بالجبل الغربي. ثم يدفعهم فوجٌ آخر فإذا هم يمضون أمامهم مضيًّا بطيئًا، وهم يتقدمون نحو الأرض المتحضرة دائمًا حتى يبلغوا حدود البادية أو حدود هذا الريف المتبدِّي، ويزعمون أن يوسف هو الذي احتفرها في الزمن القديم، فإذا أُتيح لهم أن يعبروا البحر، وأكثرهم يفنى في طبقات الزرَّاع ويضيع في عداد الفلاحين. كانت زهرة أم هاتين الفتاتين تعيش مع زوجها الأعرابي وابنتيها في قرية من هذه القرى، فقد كانت تسمى «بني وركان» وكان أهل القرية ومن حولها يُميلون الألِف قليلًا ويذهبون بها نحو الياء، مُحفظًا لنفس البدوي الذي لم يتعود دعابة القرويين وأهل الحضر. كانت زهرة تعيش مع زوجها وابنتيها عيشة متواضعة هادئة، ولا يتحرج مما يتحرج منه الرجل المستقيم، وكانت له في القرية وفي القرى المجاورة خطوب كانت تخيف منه وتخيف عليه. تتأذى بها في ذات نفسها — فكم حرَّقتها الغيرة حين كان زوجها يغيب عنها اليوم الكامل أو الليلة الكاملة — وتشفق منها على زوجها هذا الماجن؛ وكانت تعلم أنه يهيئ لنفسه عداوات خطرة في كل مكان بإلحاحه في المجون والفجور، وتخاف منها على حياة ابنتيها ومستقبلهما وآمالهما في العيش الهنيء. وإنها لفي ما هي فيه من غيرة وإشفاق وفزع ذات ليلة، إذ جاءها النبأ بأن زوجها قد صُرع، ثم يستبين الأمر قليلًا قليلًا، فإذا الرجل قد ذهب ضحية لشهوة من شهواته الآثمة، فليس له ثأر يطالب به، وإذا الأسرة كلها تضيق بهؤلاء النساء، وتُكرههن على عبور البحر والاندفاع في أرض الريف يلتمسن حياتهن فيها يائسات شقيَّات، ولا ركن يأوين إليه؛ ومن ضيعة إلى ضيعة، يلقين بعض اللين هنا، والتي تشقها الطريق الحديدية نصفين، وصوتًا ضخمًا، وصفيرًا عاليًا نحيفًا، والذي يسمونه القطار، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينًا، وبالأقدام في أكثر الأحيان. لجأت إلى شيخ البلدة أو إلى شيخ العزبة فآواها يومًا، ومنهم مهندس الري، فهؤلاء فلاحون أو كالفلاحين، وإنما يتاجرون في هذه الأمتعة والعروض التي لا تأتي من الريف ولا تصنع في المدينة، عند هؤلاء التجار الذين يبيعون الأقمشة والأحذية والأثاث، يجلبونها من مصر ويبيعونها في المدينة وفي القرى، وإنما يأكلون خبز الحنطة، وإنما يأكلون في أطباق من الخزف، لا يسمحون لنسائهم أن يخرجن متبذلات، وعلى وجوههن هذه البراقع الصفاق، عند هؤلاء الموظفين، والحياة في بيوتهم لينة ناعمة؛ قال ذلك شيخ العزبة، ثم سمى لها أشخاصًا ووصف لها بيوتًا ووعدها بالمعونة، كانت أمُّنا تدور فيها بنفسها وبنا على البيوت تعرض نفسها وتعرضنا للخدمة، ونتحدث عن أهلنا وقريتنا،