وخرج عبيد الله بن زياد فصعد المنبر،أما بعد: أيها الناس فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم، ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحربوا (5)، ثم ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمارين يشتدون ويقولون: قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقيل! فدخل عبيد الله القصر مسرعا وأغلق أبوابه.قال عبد الله بن حازم: أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانئ، فلما حبس وضرب ركبت فرسي فكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر، فإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يا عبرتاه! يا ثكلاه! فدخلت على مسلم بن عقيل فأخبرته فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم (1) الدور حوله، فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه، فعقد مسلم لرؤوس الأرباع على القبائل كندة ومذحج وأسد وتميم وهمدان، فما لبثنا إلا قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر وليس معه في القصر إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته وخاصته، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم ويفترون على عبيد الله وعلى أبيه ودعا ابن زياد كثير بن شهاب وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير في الكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب (2) ويحذرهم عقوبة السلطان، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس باقي وجوه الناس عنده استيحاشا إليهم لقلة عدد من معه من الناس فخرج كثير بن شهاب يخذل (1) الناس عن ابن عقيل، وخرج محمد ابن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، فبعث ابن عقيل إلى محمد ابن الأشعث من المسجد عبد الرحمن بن شريح الشبامي، فلما رأى ابن الأشعث كثرة من أتاه تأخر عن مكانه، وجعل محمد بن الأشعث وكثير بن شهاب والقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي يردون الناس عن اللحوق بمسلم ويخوفونهم السلطان، حتى اجتمع إليهم عدد كثير من قومهم وغيرهم، فصاروا إلى ابن زياد من قبل دار الروميين ودخل القوم معهم، فقال له كثير بن شهاب: أصلح الله الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فأبى عبيد الله؟ وعقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه.وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء وأمرهم شديد، فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم، ثم أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل العصيان (2) الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول (3) الجند من الشام إليهم. وتكلم كثير حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير عهدا: لئن تممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم (أن يحرم) (4) ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البرئ بالسقيم والشاهد بالغائب، حتى لا تبقى له بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جنت أيديها. وتكلم الأشراف بنحو من ذلك. وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، ويجئ الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر؟ فيذهب به فينصرف. فما زالوا يتفرقون حتى أمسى ابن عقيل وصلى المغرب وما (معه إلا ثلاثون) (1) نفسا في المسجد، فلما رأى أنه قد أمسى وما معه إلا أولئك النفر، خرج من المسجد متوجها نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان، فالتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق،فمضى على وجهه متلددا (2) في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها: طوعة، أم ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا، وكان بلال قد خرج مع الناس فأمه قائمة تنتظره، فسلم عليها ابن عقيل فردت عليه فقال لها: يا أمة الله اسقيني ماء، فسقته وجلس وأدخلت الإناء، ثم خرجت فقالت: يا عبد الله ألم تشرب؟ قال: بلى، قالت: فاذهب إلى أهلك،