فلا يَخفى أيها الأخوة الكرام أن الإنسان مدني بطبعه، لا ينفك عن ضرورته إلى مخالطة الآخرين والتعامل معهم، وهذا التعامل ينبغي أن يكون قائمًا على أُسس كريمة وثوابت سامية، مما يحفظ به الإنسان حقوق الآخرين، ويضمن به أيضًا أداء حقِّه منهم، وقد جاءت شريعة الإسلام الكاملة التامة المرضية عند ربنا جل وعلا، جاءتْ بضمان وترتيب هذه الأحوال فيما بين بني الإنسان في كل دوائر تعامُلاتهم؛ سواء كان في الدوائر القريبة الصغيرة، مما يكون فيه الإنسان قريبًا ممن حوله من والِدَين وزوج وأولاد، ثم ما يكون من جيران وغير ذلك إلى أبعد من هذا في التعامل مع كل من حوله، ولَما كانت أحوال الناس أيضًا قد تكون متأثرة بطبيعة المعيشة، فربما ينعكس هذا على أن يكون ثمة ضيق في الأُفق وضيق في العطن، تجعل بعض الناس يندفع غير هيَّاب ولا مُلاحِظ لِما يستحقه مَن حوله من الأخلاق الكريمة، جاءت شريعة الإسلام لتُرتِّب هذا الأمر في جملة كريمة من نصوص القرآن والسنة، ومما عدَّه العلماء من جوامع الأخلاق ما دلَّت عليه الآية الكريمة في سورة الأعراف: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]. إن هذه الآية الكريمة لتجمع مكارم الأخلاق، وتُهيِّئ للإنسان تعاملًا كريمًا مع مَن حوله؛ حيث إن هذه الآية الكريمة توطِّن الإنسان على أن يكون إيجابيًّا في كل أحواله؛ ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾؛ قال العلماء: هذه الآية الكريمة فيها الآداب العظيمة التي أدَّب الله جل وعلا بها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، الذي امتدحه ربه بعد أن كمَّله وجمَّله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فكان حريًّا بالأمة أن تنهلَ من مورده، وأن تكون على هذا المنهاج الكريم. إن أفراد الأمة لبِأَمَسِّ الحاجة إلى السير على هذا المنهاج الكريم، هذه القواعد العظيمة التي أصَّلت لها هذه الآية الكريمة: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾. قال العلماء: قوله جل وعلا: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾، المعنى: أن يكون الإنسان سهلًا لطيفًا مع من حوله، لا يطالبهم بأن يكونوا كالملائكة، لا يطالبهم بأن يكونوا على أكمل ما يكون في التعامل، يطلب منهم أحسن الكلام، لأنه يشق على الناس أن يكونوا على هذا القدر الأعلى في التعامل؛ لذا خذ العفو ما جاء من الناس على سجيتهم، فأدوا به حقك من التعامل الطيب بالكلام الحسن عند مواجهتهم إياك، ولا تطلب أن يكون ذلك على قدرٍ أعلى؛ لأنك لن تحقق ذلك ولن تجده، ليس عنده من الأدبيات ما ينطلق به نحو ما تريد، وربما في بعض الأحيان يكون الإنسان تحت وطْأَة ظروف معينة، تنتظر منه ابتسامة ووجهًا بشوشًا، فلا تدري ما حاله؟ ربما أنه يمر بظرف لا تُمكِّنه من هذا، ربما أن عنده ما يَعتذر به وأنت لا تدري، ولذلك افترض وتوقَّع أن ثمة ما يُعيق عن أن يكون من الذي أمامك ما ينبغي أن يقوم به نحوك. وقع في إحدى المرات أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه صحابي كريم وقد أهداه حمارًا وحشيًّا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في السفر نحو الحج لبيت الله الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مُحرمًا، فما كان من هذا الصحابي الكريم إلا أن بادَر وصاد حمارًا وحشيًّا وهو طيب اللحم، وهو مما يُهدَى فيُكرم به مَن يُهداه، فلما قدَّمه للنبي صلى الله عليه وسلم، هذا النبي الكريم الذي عرف الناس من أخلاقه أنه يقبل الهدية ويكافئ عليها، فكأن هذا الصحابي الكريم وجد في نفسه: ما بال رسول الله يرد عليَّ هديتي، قال عليه الصلاة والسلام وهو أكمل الخلق خلقًا - وقد لحظ في وجه الصحابي الكريم التأثر بعدم قَبول الهدية - قال له عليه الصلاة والسلام: ((إنا لم نرده عليك - إنا لم نرفض هديتك - ولكنا حُرُم))؛ ومن المعلوم أن الْمُحرِم لا يجوز له أن يصيد الصيد، ولا أن يقبل الصيد الذي صِيدَ من أجله، هذا هو النُّسك الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن الإنسان ينبغي أن يتوقع أن ثمة من الأعذار التي تكون ممن حوله ما لا يطَّلع عليه، فلا يطالبهم أن يكونوا في كل الأحوال على ما يتوقعه من طيب الكلام، وانطلاق وانشراح الصدر، وقد أصَّل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى في الدائرة المهمة، وهي العلاقة بين الرجل وزوجه، بين المرأة وزوجها، فقال عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في صحيح مسلم: ((لا يَفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))، ولا تبغض المؤمنة زوجها بسبب كراهية الواحد منهم لخلقٍ رآه منه. لا يفرك): لا يبغض مؤمن مؤمنة، ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة مهمة جميلة كريمة في التعامل مع الآخرين: (إن كَرِه منها خلقًا رضِي منها آخر))، انظر إلى الجانب الإيجابي وتَجاوَز السلبي، انظر إلى الصفحات البيضاء، ولا تتوقف عند الصفحات السوداء، هذا مع نص النبي صلى الله عليه وسلم على ما يكون من الرجل مع امرأته، فإذا قدم لك شيء أو سمعت شيئًا من كلام من زوجك، فتذكر كلامًا كثيرًا كان طيبًا يَشرح خاطرك ويسرُّ مُحيَّاك، فتذكَّر تصرفات كريمة سابقة، اجعل المكارم شافعة لما قد يكون من الهفوات، وكما قالت العرب: إن الحر يحفظ ودَّ ساعة، ولا بد أنه قد مرَّ بينك وبين زوجك من لحظات الود ولحظات الانشراح ولحظات التعانق الروحي، ما ينبغي أن يكون شافعًا لهذه اللحظة التي قصرت فيها المرأة عما ينبغي أن يكون عليه مما تتطلبه، هذا منهج الذين يسيرون على نهج النبي عليه أفضل الصلاة والسلام. ﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾: ما صدر من الناس على سجيتهم، وينبغي أن تنظر في الحسنات وتَستكثرها، والسيئات تتجاوز عنها وتَستقلها. ثم قاعدة أخرى:﴿ خذ العفو وأمر بالعرف ﴾. ينبغي على الإنسان أن يكون آمرًا لمن حوله متطلبًا منهم ما عليه العرف، والعرف ما تعارَف عليه الناس من مكارم الأخلاق في الأقوال والأعمال. لا يصح من الإنسان أن يأمر الناس بما يشق عليهم، وخاصة أن لكل مجتمع عرفًا يسير عليه، ولذلك سُمِّي معروفًا تعارف عليه الناس ذوو الفِطَر السليمة، والأخلاق القويمة، إذا تعارفوا على أمر أنه حسن، فينبغي أن يكون الإنسان سائرًا على هذا الأمر؛ سواء كان ذلك في التعاملات، أو في طريقة التعاطي في أي أمْرٍ من الأمور، لا يصلح من الإنسان أن يُخالف ما تعارَف عليه الناس؛ مما دلت عليه العقول الكريمة الصحيحة والفطر المستقيمة، ولذا جاءت الشريعة مانعة عن أمور يشذ بها الإنسان عن عُرف مجتمعه ومحيطه، فجاء على سبيل المثال النهي عن لباس الشهرة، لباس الشهرة الذي يلبسه الإنسان في مجتمع لم يتعوَّدوا أن يَرَوْه عليه، ولذلك قرَّر العلماء أن أمور اللباس من أمور العادات والأعراف، فهي ألصق بذلك من جانب كونها تعبُّدًا في ذاتها، نعم جاءت الشريعة بضوابط معينة من الأمر بستْر العورة؛ ومن منع الكشف لعورات النساء، لكن في الجملة يبقى أن ثمة في كل مجتمع عرفًا يسيرون عليه، فهذا الذي تأمر الشريعة بملاحظته، ﴿ وأْمُر بالعُرف ﴾: فالإنسان يلاحظ هذا الأمر، ولذلك نبَّه العلماء على أن المعروف في قواعد أصيلة عظيمة في التعاملات، قالوا: إن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، إذا تعارف الناس على أمر معين فهو كالشرط القائم، وخاصة فيما يكون من المعاملات في البيع والشراء، ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾: ومهما تعامل التعامل الطيب، فلا بد أن يجد ما يُكدِّره، بل إنه يصبر ويحلم ويعرض، يتجاوز ما قد يكون من زلات الجاهلين، فلا يصلح من الإنسان أن يقابل جهل الجاهل بالجهل، ولا مكر الماكر بالمكر، المؤمن يترفع عن كل ذلك، وإن أساؤوا أسأت، وهذا المنهج يحتاجه المسلمون اليوم أيَّما احتياج، خاصة في ظل اختلال الحفاظ على الأنظمة التي تضمن للناس عيْشهم عيشًا كريمًا، ولذا فإن ما يعيشه العالم الصناعي في الغرب وغيره من انضباط في التعاملات مَرده إلى المحافظة على الأنظمة، والمحافظة على الأنظمة جاءت به الشريعة آمرةً، فمن أخَذ به ضمِن العيش الكريم بإذن الله، وكانت له الريادة، وكانت له المبادرة في الأخذ بزمام الأمور، والتحكم في كثير من الأحوال في الأمور الصناعية والتجارية وغير ذلك، فإن سنن الله جل وعلا لا تحابي أحدًا، عزَّ وارتفع، وكان له الأخذ بالزمام في هذه الأحوال. ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾: ومما ينبغي أن يلاحظ في هذا الأمر أيضًا في شأن إعراض الإنسان عن الجاهلين، ألا يكون سريعًا في غضبه في مقابلة ما قد يسمعه أو يواجهه من أخطاء، وهذا أمر لا ينفك الإنسان عن الحاجة إليه؛ لأن المرء إذا واجَهه جهلُ جاهل، فإنه يفتح على نفسه باب الغضب، وإذا فتح باب الغضب على الإنسان أخطأ أخطاءً شنيعة، ربما أدت إلى إزهاق الأرواح، وإلى انفكاك الأواصر بالطلاق والفراق وغير ذلك، وهل مُلِئت المحاكم والسجون بكثير من السجناء إلا بلحظة غضب لم يضبط فيها الإنسان مشاعره، إذا جهِل مَن أمامك، فقال ما يقول من قولٍ سيِّئ، أو تصرُّف ما يتصرَّفه مِن تصرُّف بذيء، فلا تتجاوب معه على هذا النحو، ولكن: ﴿ أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾. يستزيده الوصية، يكرِّر عليه: (لا تغضب))، فكرَّر مرارًا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: ((لا تغضب)). وهذا المنحى تُقام فيه دورات تخصُّصية في شأن إدارة الغضب؛ مَن لم يتمالك نفسه فيه، فإنه يؤدي به إلى أخطار ليس لها حدٌّ، والشيطان من النار، أيها الأخوة الكرام، في كل تعامُلاتنا، بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحْبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بعدُ: وأن تعطي مَن حرَمك، وأن تَصِل مَن قطَعك)). إن هذه الأصول الثلاثة ترجمة عملية لهذه الأوامر الربانية، وإن عواقبها على الإنسان نفسه كريمة عظيمة جليلة، المسلم لا يَبني نفسه على الأحقاد، مَن هيَّأ نفسه بهذه الصفة في الدنيا، المسلم لا ينطوي قلبه على حقد نحو الآخرين، وإن أساؤوا وإن أخطؤوا في حقه، أن تعفو عمن ظلَمك، إنه يتعامل مع الله، يُحسن إلى الناس؛ إنه كما وصف الله أهل الجنة: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9، المسلم مشاعره هنا في الدنيا وعطاياه وأخذه، ومنعه وصده وإقباله، يرجو ثواب الله، وهنالك على النار، هكذا يكون المؤمن. وأن تعطي مَن حرَمك)، وهذا أعظم ما يكون في مكارم الأخلاق، إن الإنسان حينما يكافئ من أعطاه من قبل ومَن بادره، فهذا على سبيل المقابلة، مَن إذا حرَمه أحد، ومنعه وظلَمه، واجَهه بأن تكون يده هي العليا، فيعطي في كل الأحوال وعلى وجه الخصوص فيما إذا منع وحرم وظلم، فهذه أخلاق الأنبياء، لا يعامل الخلق، يرجو ثوابه ونواله جل وعلا. أيها الأخوة الكرام، ألا وصلُّوا وسلُّموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وعثمان وعلي - وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن تابعيهم، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين وأذِلَّ الكفر والكافرين. اللهم أصلح ووفِّق ولاة أمورنا، اللهم وفِّقهم لما فيه الخير والهدى، واجعلهم رحمة على رعاياهم يا رب العالمين. ربنا اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا. اللهم فرِّج هَمَّ المهمومين، ونفِّس كرْبَ المكروبين، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك،