عندما تكون وحيدًا يكون الصمت مؤلمًا كغرس سكين ببطء. أما إن كنتَ تتحرك وسط مجموعة فسيكون قاسيًا كنزع هذه السكين. حتى اختيارك له تكون مُجبَرًا عليه، فتُنزَع عنك نعمةُ الانتصارِ اللحظيِّ على الحياة باعتراضك عليها بخَرَسِك. تضحِّي بكل الأشياء التي تعوَّدتَ أن تفعلها يوميًّا مرَّة، رفعك كتابًا لا تستطيع حتى أن تقرأ عنوانه وإعادة رَمْيه ثانيةً كيفما اتفق، افتقادك رنينَ هاتف أو رسالة تخبرك أن ثمة أحدًا في الخارج. لا أحد ينتظر منك شيئًا؛ لذا يمر الوقت بطيئًا ثقيلًا كسلخ الجلد عن اللحم. حتى لو رغبتَ في الكلام فلا شيء تقوله، إنه سجن بلا حرَّاس ولا أبواب، لا تستطيع أن تغادر البقعةَ التي تقف فيها؛الصمت يعني أن تتحوَّل حياتُك - ما مضى منها وما سيأتي - إلى كتابٍ كلُّ صفحاته بيضاء، ربما سوداء لكنك لا تستطيع قراءتها، لا تستطيع أن تمسك قلمًا لتملأها، كأنه خط واحد على صفحة بيضاء بلا بداية أو نهاية، كأنه مؤشر نبضات القلب على جهاز مريض في غرفة العناية الفائقة، بعد أن يكفَّ عن الصعود والهبوط، ويصير خطًّا واحدًا طويلًا، فينزع الأطباءُ أقنعةَ الأكسجين ويكفُّون عن محاولة إفاقته، فقد أدركوا أنه اختار الصمتَ للأبد. تنتهي من الأعمال التي كُلِّفتَ بها كأنك موجود بالفعل، وآخَرُ - ربما لا يشبهك أبدًا - هو مَن يقوم بالعمل. لحظتها ستكتشف أن الصمت أقوى وأعظم تأثيرًا وسط كل هذا الضجيج.