يجمع المؤرخون على أن اليمن كان فيها نظام الملكية ، وقامت فيها دول مختلفة وكان لها حضارات ومدنيات أشرنا إلى بعض مما حكاه المؤرخون عن أوصافها . ولكن المدن والقرى الأخرى التي كانت في غيرها من شبه الجزيرة يبدو أن النظام السياسي في كل منها كان يختلف في بعضها عن بعض ، وفي ذلك يقول الدكتور جواد علي (١) : ( ويلاحظ أن بعض المدن والقرى ، ولا سيما في العربية الغربية مثل مكة لم يكن عليها ملك ، قسمت الأعمال بينهم ، ولا يلقب زعيمهم والمتنفذ فيهم بلقب ملك ه وللملأ ، وهم أصحاب الحل والعقد في البلد الحكم في الناس على وفق العادات والأعراف والقوانين الموروثة ، ويكون لهم في البلد مجتمع خاص يكون ناديهم ومقر حكمهم ، عرف بـ « دار الندوة ، في مكة و ب ( المزود ) عند أهل اليمن . ويمكن أن نقول إنه مجلس ذلك الزمن ، وإن نظام الحكم في أمثال هذه المدن هو ما يقال له ( حكومات المدن ، عند المؤرخين الغربيين ) . ه أما يثرب حيث تنازع السلطان فيها الأوس والخزرج ، فقد أراد كل فريق منها أن يكون الحكم من رجاله ، وبعد جدل وحرب استقروا على أن يكون الحكم بينها بالمناوبة ، فيحكم في كل عام زعيم من زعماء الحي الواحد ، وشاءوا أن يكون « ملك ، لقب الحاكم عندهم ، وبذلك يكونون قد وضعوا لهم نظام التناوب في الحكم ، فيكون لهذه المدينة ملك كل عام » . وأما بقية المدن العربية فقد رأينا أن بعضها كان يحكمها عند ظهور الإسلام حكام يلقبون أنفسهم ملوكا ، وكذلك كان يحكم العربية الجنوبية مثل حضرموت عدة مشايخ يلقبون بألقاب الملك . فكان هناك ملوك في اليمن والعراق والشام حيث الخصب الطبيعي وموارد الرزق الواسعة واعتدال المناخ ، ولكن نوع تلك الحكومات في تلك الدول غير معروف ، ويبدو أنها كانت على وجه عام من الحكومات المطلقة الاستبدادية (١) » . فكان النظام القبلي هو السائد فيهم، ولم تكن هناك حكومة مركزية ترعى مصالح الشعب بأجمعه، وتنفذ القانون على الجميع ، وتنشر العدل والطمأنينة والأمن بين جميع الطبقات ، إنما كانت كل قبيلة بمثابة دولة مستقلة لها كيانها الذاتي الخاص ، شعبها يتكون من أفرادها فقط ، ولها وطنها وحرمها الذي تحافظ عليه ، ولذلك كان يسمى «الحمى». وهذا الحمى كان حرماً للقبيلة لا ينبغي أن يمسه أو يقترب منه أجنبي ، مثله مثل حدود الدولة في عصرنا الحاضر. وكان أفراد القبيلة يتعاونون ويتساندون في الحفاظ على شرف القبيلة وحماها ، ولا يدينون بالطاعة إلا لرئيس قبيلتهم ، فوطنيتهم كانت وطنية قبلية لا وطنية شعبية ، كما كانت الحرية التي يتغنون بها ويتمسكون بها حرية شخصية لا حرية اجتماعية ، وكان على القبيلة في مجموعها أن تحمي كل فرد من أفرادها وتهب كلها للدفاع عنه والأخذ له بحقه ، أو الانتصاف له إن أصابه ضيم ، ومن هنا كان لهم القول المشهور : ( في الجريرة تشترك العشيرة ؛ فالقبيلة كانت تعتمد على أفراد في قوتها ومكانتها وحياتها وشرفها وهيبتها ، وكان الفرد يعتمد على القبيلة في كل ما له من حقوق ، لذلك اشتد تعلق القبائل بأفرادها ، كما اشتد تعلق الفرد بقبيلته ، ومن هنا وجدت بينهم العصبية قوية ، فكان التعصب للدم شديداً ؛ ووقف الفرد بجانب أخيه من قبيلته في جميع الأحوال ظالماً كان أم مظلوماً . ولشدة اهتمامهم بالقرابة والصلة العصبية ولحمة النسب الأبوية اهتموا بالأنساب اهتماماً عظيماً. فكان الواحد منهم يعرف نسبه ونسب قبيلته محدداً مضبوطاً ، ونرى أثر ذلك في أشعارهم التي تفيض بذكر الآباء والأجداد والبنين والأحفاد ؛ ولشدة اهتمامهم بالنسب عرف قوم منهم كانوا مشهورين بمعرفة أنساب العرب حتى سموا بالنسابين ولوجود النظام ام القبلي بين أهل البادية ، وانتشار الفوضى وتهديد الأمن والسلام في أية لحظة ، كان يهم القبيلة أن يكون أفرادها كثيرين، فمن اقوالهم : للكثرة الرعب حتى يمكنها أن تواجه الأخطار بما يملأ قلوب الاعداء خوفاً ورهبة . وكثرة الافراد كانت إما عن طريق كثرة أفراد القبيلة نفسها ، أو عن طريق التحالف مع قبيلة أو قبائل أخرى ، فيكون أفراد هذا الحلف ، متضامنين متعاونين يشد كل منهم أزر الآخر، فيكونون بمثابة قبيلة واحدة ، وأفرادها إخوة كأنهم من دم واحد لا يعتدي أحد منهم على الآخر ، ويشاركه في البأساء والضراء ، ويكون لكل فرد من أفراد هذا الحلف ما لزميله من الحقوق ،