يشكل مبدأ عدم الإفلات من العقاب أحد أبرز المفاهيم القانونية التي اكتسبت أهمية متزايدة في مجال القانون الدولي العام، وبصفة خاصة في القانونين الدولي الإنساني والدولي الجنائي. وقد جاء تكريس هذا المبدأ نتيجة لتحولات عميقة شهدها المجتمع الدولي في العقود الأخيرة، سواء من حيث الاعتراف المتزايد بضرورة حماية حقوق الإنسان، أو من حيث الإقرار الجماعي بعدم التسامح مع الجرائم الجسيمة التي تهدد السلم والأمن الدوليين. ولعلّ المبدأ في جوهره يعكس إرادة المجتمع الدولي في وضع حد لثقافة الحصانة التي طالما شكلت حاجزًا أمام تحقيق العدالة، والتي أدت إلى ترسيخ مناخ الإفلات من المحاسبة وتشجيع ارتكاب الانتهاكات دون خوف من الجزاء. لا سيما تلك المرتبطة بالنزاعات المسلحة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في تسليط الضوء على التحديات التي تعيق تحقيق العدالة الجنائية، سواء على المستوى الوطني أو الدولي. إذ تبين أن الإفلات من العقاب لا يهدد فقط حقوق الضحايا وكرامتهم، بل يقوض أيضاً أسس دولة القانون، ويشكل في بعض الأحيان عاملاً مسببًا لاستمرار أو تكرار الجرائم. بات من الضروري التأسيس لمبدأ قانوني يقوم على مساءلة كل من يرتكب جريمة، بما يضمن عدم إفلاته من العقاب. وانطلاقًا من الأهمية النظرية والعملية لهذا المبدأ، يهدف هذا الفصل إلى دراسة ماهيته من خلال مقاربة مزدوجة تجمع بين التحليل المفاهيمي والبعد الضماني. تم تخصيص المبحث الأول لبحث مفهوم مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وذلك من خلال الوقوف على تعريفه في الأدبيات القانونية الدولية، وبيان صوره المختلفة التي يتخذها هذا الإفلات، سواء كانت قانونية أم أخلاقية أم واقعية. كما يتناول هذا المبحث مدى تطور هذا المفهوم في ظل التحولات التي شهدها القانون الدولي خلال العقود الأخيرة، فقد خُصص لتسليط الضوء على الضمانات التي من شأنها كبح ظاهرة الإفلات من العقاب، وهي ضمانات تتوزع بين تلك المرتبطة بطبيعة الجرائم التي تستدعي عدم التساهل في معالجتها، وتلك المتعلقة بالأشخاص المرتكبين لها، سواء من حيث تحديد مسؤولياتهم الفردية أو من خلال إرساء مبادئ المحاسبة وعدم التذرع بالصفات الرسمية أو أوامر الرؤساء كسبيل للإفلات من المسؤولية. يتم التطرق إلى دور الآليات القانونية والمؤسسات القضائية، في تكريس هذا المبدأ وضمان تفعيله على أرض الواقع. إن دراسة هذا الفصل تمثل مدخلًا أساسيًا لفهم الإطار النظري لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، قبل التعمق في الجوانب التطبيقية والآليات المعتمدة لتجسيده ضمن الفصول اللاحقة، وذلك بهدف بيان مدى نجاعة المنظومة القانونية الدولية في مواجهة هذه الظاهرة وتحقيق العدالة الجنائية الدولية.