الحمد لله الملك المعبود ـ سبحانه ـ لا نُحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه ـ وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ـ ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ـ معالي الأستاذ الشيخ محمد المأمون القاسمي الحسَني ـ طاقم إدارة الجامع المبارك ـ عُمار بيت الله ـ السلام عليكم ورحمة الله وبـــعد: قال مولانا عز وجل في محكم كتابه بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ـ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ـ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَاـ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍٍّّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ـ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ـ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ـ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } في هذه الآيات الكريمة أمرٌ بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك ـ أمرٌ في صورة قضاء وهو أمر حتمي ـ ولفظةُ :( قَضى ) تخلع على الأمر معنى التوكيد إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء فتبدو في جو التعبير كله توكيدات وتشديدات فإذا وُضعت القاعدة وأقيم الأساس جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية ولها في النفس ركيزة من العقيدة في اللّه الواحد ـ توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال ـ والرابطة الموالية بعد رابطة العقيدة هي رابطة الأسرة ومن ثم يربط السياق بِر الوالدين بعبادة اللّه إعلانا لقيمة هذا البِـر عنده عز وجل ـ وبتلك العبارات الندية والصور الموحية يستجيش القرآن الكريم وُجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء لأن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء توجه إحساسهم القوي موجهة اهتمامهم إلى الأبوة ـ وإلى الحياة المولية إلى الجيل الذاهب ـ ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف وتتلفت إلى الآباء والأمهات ـ إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد وإلى التضحية بكل شيء إن أمهلهما الأجل وهما مع ذلك سعيدان ـ أما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ويندفعون بدورهم إلى أسرهم وأولادهم وهكذا تندفع الحياة ـ ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء إنما يحتاج الأبناء إلى تذكية وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف وهنا يجيء الأمر الإلهي بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الحضرة العلية يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر بعبادة اللّه ثم يأخذ سياق الآية في تظليل الجو كله بأرق العبارات وفي تحفيز الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان :{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما} والكبَـر له جلاله وضَعف الكبِـر له إيحاؤه ـ وكلمة {عِنْدَكَ}تصورُ معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما}وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق ـ وما يشي بالإهانة وسوء الأدبـ {وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يَـشي بالإكرام والاحترام ـ{وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}وهنا يشف التعبير ويلطف ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا ولا يرفض أمرا وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام والاستسلام ـ{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً} فهي الذكرى الحانية ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان وهو التوجه إلى اللّه أن يرحمهما فرحمة اللّه أوسع ـ ورعاية اللّه أشمل ـ وجناب اللّه أرحب ـ وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء ـ ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق فإنها تعقب على ذلك وترجع الأمرَ كله للّه الذي يعلم النوايا ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال :{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً } وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل ـ وليفتح به باب التوبة والرحمة لمن يخطئ أو يقصر ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير ما دام القلب صالحا فإن باب المغفرة مفتوح ـ والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين ـ هذا تعليق بليغ ووجيز على أجواء الآيات ومنه نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد حثّ على برّ الوالدين ـ البر الكامل ـ وذلك بِما قضاه من الأحكام تنصيصا في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه مما يستلزم من كل مُسلم الاستجابة لينال سعادتي الدُّنيا والآخرة ـ وقد شاءت حكمة الله تعالى أن تستودع قلوب الآباء والأمهات معاني الرّحمة والعطف سجية وفي المقابل لا بدّ من الأبناء أن يُحسنا إلى والدَيهما بالبرّ والطاعة وحُسْن المعاملة وطيب المُعاشرة وحِفظ كرامتهما وإسعافهما وعدم عقوقهما والتسلّط عليهما وإزالة كلّ ما ينقص من قَدْرهماـ إن أهميّة بِـرّ الوالدَين في شريعة الإسلام لها اعتناء كبير كما هو منصوص عليه في نصوص معصومة عديدة وإذا جئنا نتتبع مواضع ورودها نجدها متنوعة مرتبطة بمعان أخرى ذات أهمية مثلها فقد عطف الله سبحانه برّ الوالديَن على أهمّ أصول الإيمان وأعظم غايات الشريعة وهو توحيد الله فقال تعالى {وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}كما قرن في آيةٍ أخرى شُكْره وحَمْده على نِعَمه بشُكر الوالدَين فقال تعالى :{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}ـ وحثّ عزّ وجل على برّ الوالدَين بوصيةٍ عظيمةٍ تحثّ النُّفوس على تذكّر الآلام التي عانتها الأمّ في الحَمْل والولادة فقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ـ وقد أثنى جل وعلا على عددٍ من أنبيائه ورُسله بسبب بِرّهم بآبائهم فقال مادحاً نبيّه يحيى عليه السلام :{ وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيهِ وَلَم يَكُن جَبّارًا عَصِيًّا}كما بيّن نبيّ الله عيسى عليه السلام فَضْل الله عليه حينما جعله مباركاً بارّاً بوالدَيه فقال تعالى :{ وَجَعَلَني مُبارَكًا أَينَ ما كُنتُ وَأَوصاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتي وَلَم يَجعَلني جَبّارًا شَقِيًّا}وليس هذا في القرءان فقط فقد أكدت السنّة النبويّة المطهرة هي الأخرى أهميّة جانب برّ الوالدَين