وبين إضافات أوروبية غريبة لا تعي واقع فكر وجذور الشرقيين لاسيما العرب وتنظر لهم على انهم جميعاً اقرب الى البداوة ولا تعرف شيئاً عن نواياهم واسرارهم المعرفية والاجتماعية الواقعية , وبين مجاراة عربية لما هو مكتوب في زمن لم تبن خيوط فجره البحثي التحقيقي بعد , والعبور فوق النص الى فضاء ذلك العصر وما قبله او حتى ما بعده . وقد كان هذا القرن – التاسع عشر – فعلياً ساحة صراع المجاميع والكتل السنية التي سلطها العثمانيون على العراق من اجل الظهور بعد الفوضى التي صنعها حكم المماليك له . وقد كان وجود ال سعدون على رأس حلف المنتفك مظلة مناسبة لعدم وصول شمس الوعي الى القبائل الشيعية القوية في الجنوب لدراسة ما يجري وإعادة صياغة تحالفاتها من اجل الخروج من الزعامة البدوية . فرغم انتصار قبائل المنتفك على قوات والي بغداد الا انها لم تستثمر هذا الانتصار سياسياً ولا إداريا , بل انتفع منه مملوك اخر هو ابن لوالي مملوكي اذاق قبائل الشيعة المر , وقد كان فرسان المنتفك هم القوة الضاربة الحقيقية للوالي سعيد حتى ان خمسمائة منهم فقط كسروا جيش داود باشا المعين من قبل السلطان والياً على بغداد وفرقوه لفترة من الزمن اراحت الوالي الساذج سعيد في بغداد , وقد تفرعن داود على القبائل العراقية العربية الشيعية والسنية في الجنوب والشمال لجمع المال بالقوة ولفرض السلطة بالقتل الذي شمل حتى موظفي الدولة العثمانية الذين عينهم الوالي السابق , واغضب قادته العسكريون القبائل العربية بسبب خيانة العهد والميثاق والخسة في التعامل والكلمة . وهكذا كان اغلب ولاة العثمانيين وقادتهم بلا اصل ولا حسب مما اضعف القيم الدينية كثيرا , ورغم ان العثمانيين كانوا يشنون حملات متتالية على القبائل الشيعية على اتفه الأسباب ويعتبرون كل اعتراض تمرداً يستدعي الإبادة الا انهم لم يتخذوا أي اجراء جدي وعملي تجاه غارات الوهابيين بقيادة ال سعود السنوية على العراقيين وثرواته التي كان يسلبها الوهابية , وكان واجب الدفاع يقع على عاتق القبائل العراقية الشيعية من المنتفك الشيعة وبني كعب – رغم انهم بعيدون عن الخطر الوهابي – وكان والي بغداد يكتفي بخداع الناس بالتخييم في مدينة الحلة دون التحرك ابعد ودون دخول منطقة الخطر الحقيقية في رغبة واضحة منه لحماية سلطته في بغداد فقط . بل لم يستثمر المماليك قتل عبد العزيز ال سعود زعيم الوهابية على يد رجل دين أفغاني شيعي قتل الوهابيون ابنه في حملتهم على كربلاء . في وقت كان حلفاء العثمانيين من الاكراد البابانيين يلعبون لعبة تغيير الولاءات بين الصفويين والمماليك وادخلوا العراق في لهيب الصراع العسكري , وقد ساهمت رغبات العثمانيين القمعية والسلطوية في توسيع نفوذ الاكراد على حساب العراقيين الأصليين الذين كانوا يرفضون الوجود العثماني على خلاف الاكراد البابانيين . وكانت ايران القاجارية تنظر الى واقع العراق باهتمام بعد اسقاط السلالة الزندية , لا سيما مع ازدياد هجمات الوهابيين على العتبات المقدسة وغياب الرد العثماني المملوكي . فكانت القضايا الكردية سبباً مناسباً في اندلاع الحرب بين الطرفين والتي كانت سبباً في انتشار وباء الكوليرا في العراق وازدياد الفقر والقمع رغم رجوع الإيرانيين الى مواقعهم . وقد كانت القبائل العربية تعيش في فوضى عدم الانتماء وتشتت الهوية بين دولتين كبيرتين , لاسيما مع ظهور قوة عشيرة وافدة ينتهي نسب بعضها الى طي هي شمر , فكانت مرة تثور ومرة تقمع الثورات الى جانب العثمانيين كما فعلت بالاشتراك مع زبيد وفلول المماليك الذين تم جمعهم لغرض الحرب فقط في قمعها لثورة قبائل الفرات الأوسط , بعد ان كادت الثورة ان تنجح في اسقاط بغداد لولا وجود بعض الفئات التي كانت تعمل مع العثمانيين مثل محمد اغا , وكذلك كانت الامارات الكردية في السليمانية وشهرزور تزيد في التفتت باقتتالها الداخلي وتعدد ولاءاتها بين الإيرانيين والعثمانيين . رغم ان بقاء العراق تحت الحكم الإيراني كان سيكون بالتأكيد اكثر نفعاً حضارياً من بقائه تحت الحكم العثماني المتخلف في كل ابعاده ومماليكه . وقد كانت مدن شيعية مثل الحلة جميلة بصورة مستقلة تماماً عن معونة العثمانيين الذين ليس لهم فيها سوى جمع الضرائب الجائرة من السكان دون مقابل واضح من الخدمات , لكن الإدارة القبلية والسكانية الذاتية كانت اكثر اشراقاً من الوجود العثماني . فيما كانت كتل وعشائر مثل اللاوند وعقيل يتم استئجارها بالمال كقوات مقاتلة الى جانب الوالي العثماني الذي ينفق فقط على تعليم وتدريب المماليك الذين يتم جلبهم وشراؤهم من بلدان وأسواق متفرقة . رغم ان العثمانيين بمماليكهم كانوا رمزاً لتاريخ القبلية البدوية الفوضوية , حتى ان شط الهندية – الذي تم حفره لايصال الماء الى مدينة النجف الاشرف والذي جرى فيه الماء بانتظام عام 1800م – تم على يد آصف الدولة الهندي وليس العثمانيين[1] . ان اهم ما ميز عهود حكم مماليك العثمانيين للعراق ثورات القبائل المستمرة , وفرض الضرائب على المستضعفين واعفاء الأقوياء , وامتلاء الديوان بالمستشارين المجانين والجهلة والمتعصبين , بالإضافة الى جنون وعبث وجهل اكثر الولاة في بغداد , والسياسة الاجتماعية المحلية من خلال العلاقات المالية والقبلية التي تفرعت عن مندوبي شركة الهند الشرقية والقناصل البريطانيين بالتعاون مع اللوبي اليهودي العراقي , حتى ان العلاقات المملوكية البريطانية لم تتأثر في خضم الحرب البريطانية التركية في بداية القرن الثامن عشر بل ازدادت قرباً وتعاوناً عن طريق الرعاية المملوكية للمصالح البريطانية وصفقات السلاح التي زودت بها بريطانيا المماليك . كما كان بعض المدربين والأطباء حول الولاة فرنسيين . وقد اصبح السفير البريطاني في القرن التاسع عشر ثاني رجل في العراق عملياً وبصورة شبه رسمية بعد رتبة الباشا في بغداد[3] . وظل المماليك بجهلهم يحكمون قبضتهم المتخلفة على العراق . وقد تم سلب المزيد من الأراضي القبلية وتحويلها الى اميرية حكومية تحت داعي الإصلاح الزائف . وامام رغبة العثمانيين في إسطنبول انهاء حكم المماليك في العراق واعادته الى يدهم تم ارسال صادق افندي لاقناع الوالي المملوكي بالتنحي , فتم ارسال ضباط من الشركس يرافقهم الالبان للاستيلاء على العراق تحالفوا مع حلفاء المماليك السابقين من قبائل عقيل وشمر التي كانت تنتمي للجانب الأقوى وترتضي بما تغنم , فصادف تلك الحملة لإزالة حكم اخر المماليك داوود باشا ان انتشر الطاعون الذي ظهرت أولى الإصابات به من خلال محلات اليهود , ولولا ارتفاع مناسيب دجلة وفيضان النهر في نفس الشهر لاختفى سكان بغداد عن اخرهم , وهؤلاء المجتمعون في هذه الدار هم من قتلوا قاسم باشا اول الضباط الداخلين الى سراي بغداد من الجيش العثماني الذي قاده علي رضا باشا الشركسي . لكنّ المفاجأة انه لم يعدم بل تسلم الحكم في البوسنة وانقرة وغيرها حتى مات , وكأن دماء من سقط في بغداد كانت هباءً منثورا , فتم قتل جميع المماليك الخصم والجندي الموالي والمتعاون وغير المتعاون المواجه والهارب والمقاتل والمستسلم على يد قيادة الالبان بلا امان ولا عهد ولا ذمة كما كانت عادت سياسة الدولة العثمانية التي استفادت من هذا الوجود المملوكي الذي صنعته لقرون ثم ابادته . ان استبدال العمامة بالطربوش مع بقاء الرأس نفسه هو ما يلخص ما كانت عليه أحوال الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر . ويتحكمون برقاب الولاة العثمانيين في العراق عبر ممثليهم في استانبول , حتى ان المقيم البريطاني هو من كان يشرف على توزيع الثروة الضخمة التي خلفها ملك اوده الشيعي في الهند ويتحكم في نقلها الى المجتهدين في النجف وكربلاء , وهو الامر الذي يخفي ما يخفي من اسرار القوة العلمائية والجماعاتية فيما بعد , فيما تستمر النزاعات القبلية المحلية وعبر الحدود بين الدولتين وبمشاركة سيئة من الجيش العثماني الذي يديره ولاة يتحكم فيهم البريطانيون . فإصلاحات خطي كولخانة وخطي همايون التي حاولت تقليد المنهج الغربي في الحكم لم تدخل العراق ولا حتى اغلب البلدان التي يحتلها العثمانيون . ان الذي حدث فعلاً حينذاك وفي العراق خاصة هو نقل السلطة من يد باشوات المماليك الى يد السلطة المركزية بقيادة السلطان , ونقل الحكومة والسلطة الإدارية من يد الاغاوات الى يد الخدم ممن لا يجيدون اكثر من القراءة والكتابة , وهؤلاء الخدم كانوا متعالين على الناس ولا يتحدثون بين العرب الا بالتركية . بل والمواجهة بين المفتي السني عبد الغني – جد اسرة ال جميل في بغداد والمستورد من الشام الى بغداد – وبين الوالي حتى تم حرق دار المفتي ومكتبته لانه حاول ان يدافع عن بعض الاسر البغدادية المرتبطة به . وكان عام 1850م اخر ما حكم به الاكراد انفسهم اذ استلم أراضيهم بعدئذ الاتراك بلغتهم وموظفيهم , بعد ان نجحوا في تمزيق عوائلهم عن طريق الفتن بين الاخوة والرشى . واذا كان الاكراد هم السبب الرئيس في استمرار حكم العثمانيين ومماليكهم للعراق بمعونتهم لهم على قمع الثورات العربية فقد كان منتصف القرن التاسع عشر مناسباً للقضاء على اماراتهم هم ايضاً وحكمهم بعد تفكك اكبر القبائل او بداية تفككها والتي كانت تشكل تهديداً للوجود العثماني . وهذا ما شمل قبيلة عقيل في بغداد ايضاً اذ تم طردها من غرب بغداد بعد ان كانت سبباً مهماً في وصول الوالي الذي طردها للحكم . ومن ثم لم يكن من الصعب ضرب كربلاء ثم النجف اللتين تتمتعان بحكم ذاتي عملياً , وقد عمل كل الولاة العثمانيون على تفكيك القبائل العراقية الكبيرة , واستمروا في نقل المال من العراق الى استانبول لدعم حروب السلطان في القرم وغيرها ولتشييد القصور السلطانية هناك . وهم اذ يعادون الدولة الصفوية التي يملك شعبها علاقات تاريخية وحضارية وقبلية بشعب العراق باعتبارها في نظرهم شيعية كافرة يمنحون امتيازات مفرطة للبريطانيين والأوروبيين الأجانب ذوي النوايا السيئة – والتي ثبت اثرها السيء فيما بعد – دون مقابل , ولم يفت العثمانيين في تلك الفترة قتل المسيحيين العراقيين الشرقيين أيضاً لاسباب نفهمها من المستفيد لاحقا . وتعيين شيخ منتفكي لجباية أراضي بني لام لاثارة الفتنة بين اقوى تحالفين قبليين في العراق , وكذلك محاولة تركيا سلب الأراضي التي تحت أيديهم وضمها الى مدن أخرى . ويكفي في بيان سوء الإدارة العثمانية المدنية والعسكرية – وهما في الغالب مختلطتان – ان العراقيين حين يريدون حتى اليوم وصف امر ما بالفوضى يقولون متندرين ( هي هايته ) والهايته اسم للجيش العثماني الذي نشأ في العراق بعد حل الانكشارية . ( ولا يفوتنا ضرورة الإشارة الى ان ذلك كله كان تحت اشراف البريطانيين وممهداً لدخولهم العراق من خلال القضاء وتفكيك كل الامارات المحلية في العراق وتجهيله وتجويعه ونشر الفتن بين العائلات الاميرية والقبلية الحاكمة وتوطين القبائل لتسهيل ضربها وزيادة خوفها من المواجهة بعد توطنها لثقل حركتها[6] . عند اول رحلة لباخرتين بريطانيتين في الثلث الأول من القرن التاسع عشر وهما ( دجلة – الفرات ) في الأنهار العراقية بعد موافقة السلطة العثمانية في تركيا على ذلك وبعد المناقشة البريطانية في لندن لدعم ملاحة شركة الهند الشرقية , اما الباخرة الفرات فقد طلب فلاحو حديثة من طاقمها ان يذهبوا الى بغداد ويرفعوا علمهم هناك , وقابلهم اهل الحلة مقابلة الكفار , وقابلهم الخزاعل باستخدام القوة والطرد , وتم سد طريقها في سوق الشيوخ بجذوع النخل . مما يكشف الفرق بين الوعي الوطني لأهل العراق وبين الإدارة العثمانية الفاسدة . وهو الامر الذي ستدفع ثمنه الدولة العثمانية غالياً مستقبلا , وخلال الفترة اللاحقة انتشرت البواخر البريطانية في المياه العراقية بترخيص او بدونه , وتم رسم عشرات الخرائط للبلاد من قبل المساحين البريطانيين لتدخل الخدمة في الجيش البريطاني حتى عام 1914م . في الوقت الذي تحقق شركات اسرة لنج البريطانية الأرباح في المياه العراقية . ورغم ان العراقيين اول من اخترع العجلة في التاريخ الا ان بلادهم كانت تسير تجارتها باستخدام الحيوانات , وهي الحكومات التي كانت تجبر الفلاحين والأهالي على بناء القناطر على الأنهار رغم انها تسلب أموالهم . ولم تكن السلطات العثمانية تستجيب وتتعاون سوى مع الرغبات التجارية الأوروبية حينها حيث نظر الأوروبيون للعراق على انه مكمن ثروات هائلة – وهو الأهم اقتصاديا في الدولة العثمانية كلها بالاشتراك مع مصر – وطريق رئيس يربط الشرق بالغرب, لقد جاء مدحت باشا الى بغداد حاكماً على العراق من أوروبا , وقد فشل في كل ما ادعي انه أراده من اصلاح بسبب جهله وسوء ادارته وسوء الماكنة الحكومية العثمانية . ومن الغريب انه أراد بيع خزائن مدينة النجف الاشرف النفيسة والتي لا تملكها الدولة لانها موقوفة من مالكيها على العتبات المقدسة بدعوى انفاقها على الاشغال العامة رغم انه فشل في كل ما تدخل به من اشغال لا سيما في مشاريع شط العرب . حتى انه هدم سور بغداد وتركها بلا حماية بعد ان تركه انقاضاً على الأرض , الا انه نجح في تمصير مدن قبلية مثل الناصرية والرمادي , لا من اجل أهلها بل لان مدينة الناصرية كانت مركز إقليم المنتفك الأقوى في العراق ومن ثم هو نجح في توطين القبائل وتوظيف شيوخ السعدون عند الحكومة بعد ان كانوا امراء اكبر من الوالي نفسه , او اذلالها بمصادر المياه الزراعية التي تتلاعب بها الحكومة , كما ان سياسة التوطين خلقت مشكلة التملك للأراضي التي هي ملك قبائل اصيلة لكنّ اسلاف الولاة العثمانيين منحوها هدايا وهبات لرجال وعوائل موالية لهم , فكان هذا طوق نجاة اولي لقبائل مهاجرة جاءت من نجد او الحجاز او الخليج او الشام وهي لا تملك شيئاً سابقاً في العراق الا ان مذهبها السني أعطاها مكانة اقرب عند الولاة العثمانيين , واستغل السعدون هذا الوضع بعدما اصبحوا موظفين عند الحكومة العثمانية واستحصلوا سندات ملكية للأراضي في إقليم المنتفك الواسع وسط ذهول أبناء تلك القبائل واستغرابها , ليجد أبناء تلك المناطق المحاربون الاشداء انفسهم فلاحين عند السعدون , وصار للعثمانيين قوة مقيمة لحماية شيوخ السعدون في الخميسية في سوق الشيوخ , حتى ان جشعهم وصل بهم الى اخماد ثورة الاحساء البعيدة انتصاراً للعثمانيين , بل يمتد اثرها الى اليوم . ثم يمكن القول ان مدحت باشا جعل الطريق البريطاني الى العراق معبداً من هدم الاسوار وتوطين القبائل لتثقل حركتها وقدرتها على المراوغة . وقد كانت المناصب في العراق حكراً على الاتراك والالبان والشركس وبعض العرب السوريين او الاكراد في الشمال . وحين فشل الاتراك في الحكم المباشر لمناطق الخليج استعانوا بقبائل المنتفك الذين حكموها من بداية سبعينات القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين . وقد استولى البريطانيون – المتسللون في العراق منذ ثلاثة قرون – على التلغراف والملاحة النهرية وعلاقات مع قبائل عديدة ونفوذ حكومي يصل من البصرة الى بغد والموصل الى إسطنبول , الامر الذي جعل احتلالهم للعراق مهيئاً تماما . رغم انقسامها بسبب توطن شيخها العام , الا ان استياطنها وتوطيد علاقتها بالحكومة العثمانية في العراق منحها الفرصة الذهبية لشغل المناصب المهمة محلياً والتي كانت ترفضها القبائل الجنوبية المعارضة للجور العثماني والحكومات اللاحقة , فتتقاتل القبائل بينها كما في نزاع بني لام الداخلي في اخر عقدين من القرن التاسع عشر , حتى صار للعثمانيين قوة عسكرية هناك في العمارة لأول مرة . والتي لم تتقاتل يكفي في اضعافها ضربها كما في هجوم الحكومة العثمانية على قبائل الدغارة في الديوانية , ونفي اهم شيوخ جنوب العراق الشيخ حسن امير قبيلة اسد التاريخية بعد إخراجه عنوة من الاهوار . وقد لعبت الدعاية الدينية السنية دورها في حكم العراق من قبل العثمانيين . والقوات العثمانية في العراق كانت تجبر الناس على التجنيد في الحروب الخارجية بالقوة لتشكيل عدة فيالق , ولقد كانت التشريعات القانونية التركية توفيقاً بين ما هو شبه الإسلامي وبين ما هو فرنسي , بالإضافة الى سوء تطبيق القانون من قبل الموظفين والولاة المرتشين . كما ان التعليم كان اخر الأشياء التي من الممكن ان تسعى الحكومات التركية الجاهلة لنشرها بين العراقيين , وكانت دوائر البلدية غير موجودة عملياً في العراق , ولم تكن هناك من دوائر حكومية للصحة ولم يكن في العراق سوى مستشفى واحد يقع في بغداد , فيما كان المسيحيون واليهود يتمتعون بنظام تعليمي واضح , الامر الذي مكنهم من تطوير انفسهم ومجتمعاتهم والدخول في السلك الوظيفي . وكان ان سمحت الحكومة العثمانية للبريطانيين وموظفيهم الهنود فتح دائرة بريد تعمل في العراق , وبقي العراق متخلفاً في الملاحة النهرية والبحرية عن العالم بسبب سوء الإدارة العثمانية واهمالها وعدم كفاءتها وجديتها حتى نهايات القرن التاسع عشر , رغم سعي بعض ولاة العثمانيين للمنافسة معها , لكنها مدت من البلقان الأوروبية الى تركيا فقط ولم تصل الى العراق الا بعد اكثر من عشرين سنة اذ انجز خط حديد بغداد – سامراء عام 1914م , وكانت الاسرة السعدونية عند دخول العراق في القرن العشرين الميلادي آخذة في الضعف والانهيار متسببة في ضعف غيرها وانهيار اكبر واطول حلف قبلي قوي في العراق هو حلف المنتفك , فكانوا في العقد الأول من ذاك القرن ضعفاء واقليمهم اضعف . وصار كل العراق مشغولاً بمشاكل جمة خلقها التوطين وانقسام القبائل وسوء الإدارة العثمانية . وكان العراق منذ عهد سليمان القانوني حتى دخول القرن العشرين يزداد ضعفاً وجهلاً وانحداراً مادياً ومعنويا ويقترب من مظاهر البلدان الوحشية بعد ان كان قبلة التحضر العالمية قبل ذلك . رغم ان استقرار العراق في فترات الحكم المحلي المستقلة القليلة يخالف ما ادعاه البريطاني صاحب كتاب ( أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ) – كأي محتل مغالط – من عدم صلاحية اهله للحكم الذاتي , وهو الكاتب ذاته الذي حاول نسب فشل إدارة العثمانيين وسوء حال العراق الى عقيدة الإسلام والعقل الشرقي , رغم انه نفسه من روى ابهة ما كانت عليه هذه البلاد من حضارة وتمدن وثراء في العصور الإسلامية غير التركية . رغم ان الاحتلال العثماني نهب ثروة العراق لعدة قرون واستعان بها في حروبه وثراء تركيا , غافلاً عن ان كل بلاد العالم كذلك بما فيها تركيا نفسها , وان هذا التنوع القومي والمذهبي في العراق كان موجوداً في كل العصور ولم يمنع احداً من الاعمار . وهو ذاته يعترف انه لم ير بلداً فيه ثروات كامنة مهملة مثل العراق[9] .