فكانوا يُعلمون طوائف للنقش على المعابد والجدران والكتابة على صفحات البردى. كان الكهنة المصريون هم الذين يسيطرون على العملية التعليمية كافة بجميع مراحلها، فقد كانوا يمتلكون قوة فكرية عظيمة وهي بمثابة حصن سياسي مكتسب من التنوع الثقافي في ذلك الوقت. وكان الكهنة يدرسون الأطفال العلوم الإنسانية والمواد العملية مثل الطب والرياضيات والهندسة، ثم بعدها بدأ تعليم الأطفال المهارات المهنية المتعلقة بالهندسة المعمارية والنحت كنوع من التعليم خارج المدرسة. كان تعليم الأطفال يبدأ من سن الخامسة بتعليمهم الكتابة والقراءة حتى سن 16 أو 17، ثم بعد سن 17 يخرج الشاب للعمل. وبعد أن يتمكن من القراءة والكتابة يُكلّف بالنسخ على أوراق البردى أو ألواح خشب رقيقة مدهونة بطلاء المرمر الأحمر أو الأبيض. فحضارة مصر القديمة مازالت تحير علماء التربية إلى وقتنا هذا، لنرى ما وصلت إليه حضارة مصر القديمة وكيف كانت مدارس الحكومة وما هو نوع الورق والحبر المستخدمين وكذلك مراحل تطور الكتابة وما هي أشكال الكتابة المصرية القديمة. كان الكهنة يلقنون أبناء الأسر الغنية مبادئ العلوم في مدارس ملحقة بالهياكل كما هو الحال في أبرشيات طوائف الكاثوليك الرومان في هذه الأيام. وقد عثر في خرائب إحدى المدارس التي يبدو أنها كانت جزءاً من بناء الرمسيوم على عدد كبير من المحار لا تزال دروس المعلم القديم ظاهرة عليها. وكان عمل المدرس في تلك الأيام هو تخريج الكتبة للقيام بأعمال الدولة ، وكان المدرسون يستحثون تلاميذهم على الإقبال على التعليم بتدبيج المقالات البليغة يشرحون فيها مزاياه. لكن العالم وحده هو الذي يحكم نفسه". وكتب أحد المولعين بمطالعة الكتب يقول: "إن من سوء الحظ أن يكون الإنسان جندياً ، أما السعادة فلا تكون إلا في توجيه القلب إلى الكتب في النهار والقراءة في الليل". وكانت هذه الدروس تكتب على الشقف أو على رقائق من حجر الجير. كما هي أهم مشاكله في الوقت الحاضر. وكان النظام صارماً يقوم على أبسط المبادئ. وكتب تلميذ إلى مدرس سابق يقول: "لقد ضربت ظهري ، فوصل تعليمك إلى أذني". ومما يدل على أن هذا التدريب الحيواني لم يفلح على الدوام ما جاء في إحدى البرديات التي يأسف فيها مدرس لأن تلاميذه السابقين لا يحبون الكتب بقدر ما يحبون الخمر. لكن عدداً كبيراً من طلبة الهياكل تخرجوا رغم هذا على أيدي الكهنة ودخلوا المدارس العليا الملحقة بمكاتب خزانة الدولة. كان الكتبة يدرسون نظم الإدارة العامة ، حتى إذا ما أتموا دراستهم قضوا مدة التمرين عند بعض الموظفين يعلمونهم بكثرة ما يعهدون إليهم من الأعمال. ولعل هذه الطريقة في الحصول على الموظفين العموميين وتدريبهم أفضل من الطريقة التي نتبعها نحن في هذه الأيام طريقة إختيار الموظفين على أساس أقوال الناس فيهم ، وعلى هذا النمط أنشأت مصر وبابل في عصر واحد تقريبا أقدم ما عرف من النظم المدرسية في التاريخ. ولم يرق نظام التعليم العام للشبان فيما بعد إلى هذا المستوى الذي بلغه في أيام المصريين الأقدمين إلا في القرن التاسع عشر. وكان يسمح للطالب في الفرق الراقية أن يستعمل الورق- وهو من أهم السلع في التجارة المصرية ومن أعظم النعم الخالدة التي أنعم بها المصريون على العالم. وكانت طريقة صنعه أن تقطع سوق نبات البردي شرائح وتوضع متقاطعة بعضها فوق بعض ثم تضغط ويصنع منها الورق عماد المدنية ، وحسبنا دليلا على حسن صنعه أن ما كتب عليه من المخطوطات منذ خمسة آلاف عام لا يزال حتى الآن باقيا متماسكا سهل القراءة. فتكون منها ملفات ما يبلغ طول الواحد منها أحيانا نحو أربعين ياردة ؛ وقلما كانت تزيد على هذا في الطول لأن مصر لم يكن فيها مؤرخون مولعون بالحشو واللغو. وكانوا يصنعون حبرا أسود لا يتلاشى بمزج الصناج و الصمغ النباتي بالماء على لوحة من الخشب. أما القلم فكان قطعة بسيطة من الغاب يعالج طرفها ليكون كقلم الرسام. وبهذه الأدوات الحديثة الطراز كان المصريون يكتبون أقدم الآداب ؛ وشاهد ذلك أن أقدم نماذج منها بينها وبين اللغات السامية شبه كبير. فكانت كلمة بيت مثلا (وهي في اللغة المصرية بر) يرمز لها بشكل مستطيل بفتحة في أحد طوليه. ولما كانت بعض المعاني مجردة إلى حد يصعب معها تصويرها تصويرا حرفيا فقد أستعيض عن التصوير بوضع رموز للمعاني ، فكانت بعض الصور تتخذ بحكم العادة والعرف للتعبير عن الفكرة التي توحي بها لا عن الشيء المصوّر نفسه ، فكان مقدم الأسد يعبر عن السيادة (كما هو في تمثال أبي الهول) وكان الزنبور يعبر عن الملكية ، فأصبحت المعاني المجردة التي عجزوا في بادئ الأمر عن تصويرها يعبر عنها برسم صور لأشياء تشبه أسماؤها مصادفة الألفاظ التي تعبر عن هذه المعاني. من ذلك أن صورة المِزْهِر لم تكن تعني المزهر نفسه فحسب بل كان معناها أيضا طيّب أو صالح لأن منطق إسم المزهر في اللغة المصرية- نِفِر- شبيه بمنطق اللفظ الذي يعبر عن معنى طيب أو صالح- نُفِر. من ذلك أن فعل الكينونة كان يعبر عنه في لغة الكلام بلفظ خوبيرو. وقد عجز الكاتب المصري في أول الأمر عن إيجاد صورة يمثل بها هذا المعنى الشديد التجريد ، حتى إهتدى أخيرا إلى تقطيع الكلمة إلى ثلاثة مقاطع خو- بي- رو. وعلى هذا النحو عرف الكاتب المصري مقاطع الكلمة ، والصورة التي ترمز لكل مقطع ، ويرسمون مجموعة الأشياء المادية التي توحي بها أصواتها ، حتى إستطاعوا في آخر الأمر أن يعبروا بالعلامات الهيروغليفية عن كل ما يريدون ، فلا يكاد يوجد معنى من المعاني لا يستطيعون التعبير عنه بعلامة أو بمجموعة من العلامات. ولم يكن بين هذا وبين إختراع الحروف الهجائية إلا خطوة واحدة. وقد كانت العلامة الدالة على البيت تعني أولاً كلمة البيت- بِرْ. ثم أختصرت الصورة وأستخدمت للدلالة على الباء أيا كانت حركتها وفي أية كلمة كانت. ولما كانت الحركات لا تكتب عقب الحروف بل تهمل كلية فإن هذه الصورة أصبحت تمثل حرف الباء. وعلى هذا النمط عينه أصبحت العلامة الدالة على اليد (وتنطق اللغة المصرية دُتْ) تعني دُ ، دَ ثم أصبحت هي حرف د ، وكذلك صارت العلامة الدالة على الفم (رُ ، والعلامة الدالة على الثعبان هي حرف ز ، وعلامة البحيرة (شي) وهي حرف ش- الخ ، وكانت نتيجة هذا التطور أن وجدت حروف هجائية عدتها أربعة وعشرون حرفاً إنتقلت مع التجارة المصرية الفينيقية إلى جميع البلاد الواقعة حول البحر المتوسط ، ثم إنتشرت عن طريق اليونان وروما حتى صارت أثمن ما ورثته الحضارة من بلاد الشرق. والكتابة الهيروغليفية قديمة قدم الأسر المصرية الأولى ، أما الحروف الهجائية فكان أول ظهورها في النقوش التي خلفها المصريون في مناجم سيناء التي يرجعها بعض المؤرخين إلى عام 2500 ق. م وبعضهم إلى عام 1500 ق. ولم يتخذ المصريون لهم كتابة قائمة كلها على الحروف الهجائية وحدها لحكمة في ذلك أو لغير حكمة ، بل ظلوا إلى آخر عهود حضارتهم يخلطون بين حروفهم وبين الصور الدالة على الرموز وعلى الأفكار وعلى مقاطع الكلمات. ومن أجل هذا صعب على العلماء أن يقرءوا الكتابة المصرية، ولكن من السهل علينا أن نتصور أن هذا الخلط بين الكتابة بالطريقة المعتادة وبطريقة الإختزال قد سهل عملية الكتابة للمصريين الذين كانوا يجدون فسحة من الوقت لتعلمها. ومن أجل هذا نشأ شكل سريع سهل من أشكال الكتابة إستخدم في الكتابات العادية ، وإحتفظ بالطراز الأول منها ليستخدم فيه "النقوش المقدسة" على الآثار. وإذا كان الكهنة وكتبة الهياكل هم أول من مسخ الكتابة الهيروغليفية على هذا النحو فقد أطلق اليونان عليها إسم الكتابة الهيراطية (المقدسة) ، ثم نشأ على يد الشعب نفسه نمط آخر من الكتابة أكثر من النمط الثاني إختصارا وأقل منه عناية ؛ ولذلك سمي بالكتابة الديموطية (الشعبية) لكن المصريين كانوا يصرون على ألا ينقشوا على آثارهم إلا الرموز الهيروغليفية الفاخرة الجميلة- ولعلها أجمل نمط من الكتابة عرف حتى الآن. لما لها من سبق وتنوع وتفرد وابهار ، ومما لا شک فيه أن تلک الحضارة التى ُسست فى مصر مثلت البداية فهى لم ترث علماً ولا فکراً، ولقد فطن المصرى فى زمنه إلى حتمية بناء جيل متعلم يعَّتد به، ويعتمد عليه في تشييد أرقى الحضارات الإنسانية في العالم القديم ومن هذا المنطلق سارع إلى الاهتمام بتزويده بسلاح العلم والتعليم. ورفعوا من شأنهم فى حياتهم الدنيوية والأخروية إلى حد إلباسهم لباس القداسة وإنزالهم منزلة الآلهة. وهذا الأمر ينسحب بدوره على "إيمحتب بن حابو" الذى ألهه المصريون فى الدولة الحديثة، وکانوا يحجون إلى مزار له فى الدير البحرى بجبانة طيبة، ولم يکن الهدف منه قاصرا على الجانب المادى والروحى فقط بل تجاوز ذلک إلى مانسميه اليوم بفلسفة التربية والتعليم وکان وازعها الأول تلک القداسة التى أحاطت بالعلم والمعرفة وأصاحبهما. لقد فرضت ظروف الحياة فى مصر القديمة طبيعة العلوم التى کان يتوجب على المصريين معرفتها واقتصرت فى البداية على تلک التى تفى بالمتطلبات الحياتية اليومية من فلک وحساب وهندسة (معمارية) وطب وتشريح وتحنيط ورسم ونحت وتصوير وممارسة الکثير من الصناعات الکيميائية؛ يتفوقون کثيراً على کل الشعوب التى خبرتُها انتشر التعليم في مصر منذ عهد المصريين القدماء الذين ساهموا في اختراع الكتابة؛ وفي عهدهم أنشئت «بر عنخ» أو بيت الحياة كأول مدرسة ومكتبة في تاريخ الإنسانية ان التعليم بالتوارث هو الشائع في مصر القديمة خاصة تعلم الحرف والصناعات التي كانت تورث من الآباء إلى الأبناء ثم الأحفاد، أما أولاد الملوك والأمراء والنبلاء فكانوا يدرسون في مدارس ملحقة بالقصر الملكي يتعلمون فيها من الصبا للكبر القراءة والكتابة وعلوم الدين والأدب والطب والرياضيات والفلك وما يرغبون من العلوم الأخرى. وكانت طبقة الصناع والموظفون يرسلون أولادهم ليتتلمذوا على يد الأساتذة. وكان بالمصالح والإدارات مدارس ملحقة خاصة بالدولة لتعلم شؤون هذه الإدارات، ومنها المدارس الملحقة بالجيش لتعليم العلوم العسكرية بما فيها من تدريبات على فنون القتال واستعمال السلاح. وكان التعليم المدرسي في الغالب مقتصراً على من هم مزمع تعيينهم كهنة أو في مناصب إدارية مدنية بدون تمييز بين البنين والبنات، فوصلت المرأة المتعلمة إلى العديد من المناصب المهمة وشغلن مناصب رفيعة في الدولة. أما المدارس فكانت «بر عنخ» أو بيت الحياة هو اسم أول مدرسة ومكتبة في تاريخ الإنسانية. وكان هناك مبنى خاص للتعليم الأساسي لتعليم الكتابة والقراءة عرف باسم «عت سبا» أو مكان العلم أو المدرسة، وكان يبنى إما مستقلاً أو ملحق بمعبد، كانت مصر مقصداً لتلقي العلوم والتعليم على أيدي علماء مصريين ذاع صيتهم خارج حدود مصر، أضافوا للعالم في جميع العلوم والفنون والآداب وشتى أنواع المعرفة. وكان بالإسكندرية جامعة يعود تاريخها إلى عام 300 ق. بتغير الظروف السياسية وخلال العصر الروماني وحتى الاعتراف بالمسيحية ديناً رسمياً للدولة عام 379م كان هدف الكنيسة هو الحفاظ على القومية المصرية وتعليم اللغة القبطية وترجمة الكتاب المقدس إليها وتنحية كل ما هو يوناني. فألحقت المدارس بالكنائس بدلاً من المعابد وأنشئت المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية.