ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وصلاة اللّٰه وسلامه على النبي المبعوث رحمة للعالمين، من أكثر الموضوعات التي كنت -وما زلتُ - متحمسًا للكتابة عنها موضوع الحضارة الإسلامية، فإن الذي يريد أن يفهم مسيرة الإنسانية، وليس لمجرَّد أنها ربطت الحضارات القديمة بالحضارات الحديثة؛ ولكن لأن إسهامات المسلمين في مسيرة الإنسانية من الكثرة والأهمية بمكان، وبكل خصائصها ودقائقها، إنها فترة باهرة حقًّا في تاريخ البشرية! وتزداد أهمية الكتابة في هذا الموضوع مع ازدياد الهجمة الشرسة الموجَّهة إلى الإسلام والمسلمين، ووصمهم بالجمود والهمجية، وادعاء أن العنف والإرهاب من صميم أخلاقهم وصفاتهم. وحضارتنا. الذي يسيطر على مشاعر المسلمين؛ فلا شكَّ أن متابعة خريطة العالم الإسلامي السياسية تُثير في القلب الكثير من الأحزان، كما أن الحالة العلمية والثقافية والاقتصادية - بل والأخلاقية - تعاني من تخلُّف شديد لا يتناسب مع أمة كريمة كأمة الإسلام، وأن نعرف أسباب سيادتنا وريادتنا؛ وإلى ترميم الصدع، وإلى إعادة المسلمين إلى المسار الصحيح، وهذه الصعوبة تأتي من عِدَّة وجوه؛ منها: اختلاف المفكرين والمؤلفين في تعريف الحضارة، ومنها اتساع الفترة الزمنية التي نحن بصدد تحليلها، وأنتجوا فيها، إنها صعوبات كثيرة جعلت التعديل والتغيير في الكتاب متكرِّرًا جدًّا، حتى خرج في هذه الصورة، وأحسب أنني لو أعدتُ النظر فيه لقلبته رأسًا على عقب! وما تشمله من معانٍ وأُطُر. فالحضارة في تعريف الأوَّلين لم تكن تعني سوى السكنى في الحضر، والحضر عندهم هو عكس البادية، وذلك كما نصَّ عليه ابن منظور مثلاً فقال: الحضارة هي الإقامة في الحضر، والحاضرة خلاف البادية. وغير ذلك، ولكنها تُجَمِّل حياته في الحضر، بمعنى أنها ليست من ضروريات الحياة في هذا التعريف، زيادة تتفاوت بتفاوت الرقة، . ولعلَّ أصل كلمة الحضارة في المصطلحات الأوربية تعود إلى نفس المنطلق؛ حيث إن كلمة الحضارة في الإنجليزية civilization تأتي من الكلمة اللاتينية civis، والتي تعني المدني أو المواطن في المدينةِ، فهي تعني عندهم الذين يسكنون في المدينةِ، ثم تطوَّرت عندهم كما تطوَّرت عند غيرهم لتشمل أحوال الناس في داخل المدينةِ؛ ولذلك كثيرًا ما تترادف عند المفكرين كلمة الحضارة مع كلمة المدنيةِ، مع فروق طفيفة بين المعنيين. لكنَّ هذا الأصل اللغوي لم يُعَبِّر عن آراء المفكرين والفلاسفة بشكل يجتمعون عليه، بل كانت لهم اتجاهات كثيرة متباينة، لا تُعَبِّر فقط عن اختلاف لغوي، بل وعقائدي. فمن المفكرين من نظر إلى الإنسان نفسه، وهو اتجاه جميل لا شكَّ، ويهتم بالفكر والعاطفة معًا، والبحث الروحي. وقيم تصلح لقيادة البشرية». وقبلهما نحا ألكسيس كاريل منحنى مشابهًا، والعلوم الخادمة لسعادة الإنسان النفسية والخلقية والإنسانية)). وتغيُّر مشاعر الإنسان إلى الأفضل) . فهذه كلها تعريفات تدور حول الاهتمام بالإنسان ذاته داخليًّا، ومدى رُقِيِّّ أفكاره وأخلاقه. فهم لا ينظرون إلى داخل الإنسان كأصحاب الرؤية السابقة، إنما ينظرون إلى ما أنتجه هذا الإنسان في مجتمعه، وقد ينظرون إلى إنتاجه بشكل شامل في كل المجالات، أو يهتمون بجانب على حساب جانب آخر؛ لتحسين ظروف حياته، وسواء أكانت الثمرة مادية أو معنوية)(٨). فهو ينظر نظرة شاملة إلى جهد الإنسان وإنتاجه، بينما يُخَصِّص ول ديور انت(٩) الإنتاج البشري في اتجاه الثقافة والفكر، ويجعل بقية العوامل في الحياة مؤدية إلى هذا الإنتاج، ومتابعة العلوم والفنون» وهناك من ينظر نظرة مادية إلى الحضارة، ولا ينظر بذلك إلى داخل الإنسان، ولا ينظر كذلك إلى المعتقدات الفكرية، وهؤلاء أحد صنفين: إمَّا عشاق للمادة، مُغْرِقُون في إنكار المبادئ والقيم كأحد العوامل الرئيسية في تقييم أمة أو مجتمع، وهم يعتبرون الحضارة والمدنية مترادفين، والزراعة والصناعة والاختراع الآلي» . ونيتشة، وترك العِنان لطبيعتنا الحرة السافرة لتفعل ما تشاء، ). إلى أن يقولوا: ((إن الأخلاق ليست إلا اختراع الضعفاء؛ لكي يُقَيِّدوا بها سلطان الأقوياء، أمَّا الصنف الآخر من الماديين، فهم - كما يبدو من كتاباتهم - لم يقصدوا التقليل من شأن الأخلاق، إنما اعتبروا الحضارة لفظًا ماديًّا بحتًا، لا علاقة له بأخلاقيات الإنسان، ويلزم هذا التأنق صناعات كثيرة)). وما يستتبعها من تطور. وعلى هذا - فكما رأينا - هناك تعريفات كثيرة للحضارة، وهذا يعني أن الأمر ليس مُتَّفَقًا عليه بين العلماء والمفكرين، ولعلَّ هذا يرجع إلى أن الكلمة جديدة مستحدثة، ومن ثم فهي تحمل معاني مختلفةً عند كل مُفَكّر، كما يرجع - أيضًا - إلى اختلاف المناهج والأيدلوجيات لكل مدرسة من مدارس الفكر الإنساني، كل هذه التعريفات - المتناقضة أو المتكاملة - تجعل الحديث عن الحضارة أمرًا صعبًا، يحتاج إلى إعمال فكر من كل المشاركين بالبحث فيها. وكذلك البيئة بكل ما فيها من ثروات. زادت الحضارة رقيًّا وتقدُّمّا، صار الإنسان متخلِّفًا منحدرًا. فالحضارة بذلك هي ناتج التفاعل بين الإنسان وربه من ناحية، وبين الإنسان وبقية الناس على اختلاف درجاتهم وصفاتهم من ناحية ثانية، وغير ذلك من الموجودات من ناحية ثالثة. فهي ثلاث علاقات بهذا التعريف وهي مُرَتَّبة من الأعلى للأدنى، وتتفاوت درجة الحضارة من مجتمع إلى آخر بتفاوت طبيعة هذه العلاقات مجتمعة. ومن الواضح من هذا التعريف أن هناك مجتمعات متحضِّرة في جانب، بل قد تكون في قمة التحضُّر في هذا الجانب، بينما تكون مُتَخَلِّفة شديدة التخلُّف في جانب آخر من جوانب الحضارة. ويُطَوِّر الاختراعات، ويُحْسِن استخدام كل ذلك دون أن يتعرَّض لبقية عناصر البيئة بالأذى أو الضرر - هو إنسان متحضر في هذه العلاقة، وهو محور تعامل الإنسان مع البيئة، بينما يمكن أن نجد نفس الإنسان المتحضر يُنْكِر وجود الخالق جلَّ وعلا، أو يُهْمِل التوجُّه إليه والاعتماد عليه، وفق المطلوب من الإنسان لتحقيق العلاقة السوية بينه - كعبد – وبين الإله - كَرَبِّ وخالق - هذا الإنسان بهذه الصورة شديد التخلُّف في هذا الجانب. وهو من ناحية أخرى قد يُحسن إلى أولاده ووالديه وزوجته وجيرانه، لكنه قد يُسيء التعامل مع بيئته، بل إنه قد يكون متحضّرًا في أحد المحاور من شِقٍّ مُعَيَّن، إنسان متحضر، لكنه قد يسيء إلى المجتمعات الأخرى من البشر؛ فلا يتعامل معهم بالعدل الذي يتعامل به أهله، فهو في هذه الحالة متخلِّف، وبقدر ظلمه يكون تخلُّفه، وإن بلغ قمة السموً الإنساني في الاختراع والابتكار. إننا بهذه المقاييس الثلاثة سَنُغَيِّر كثيرًا من حكمنا على المجتمعات التي تحيط بنا؛ وغيرها، واستخدامها لثرواتها، وقد تكون متحضرة في تحقيق بعض جوانب الحقوق للإنسان وللحيوان، ولكنها قد تكون متخلفة في تحقيقها لبعض الضوابط الأخلاقية داخل أو خارج مجتمعاتها، فالذي يُقيم علاقات خارج إطار زواجه، والذي يُهمل والديه، ويُؤَصِّل القمار، ويوقع الظلم على الشعوب الضعيفة، ويستنزف ثروات المساكين لا يمكن أن يكون متحضرًا. ثم إن هذه الشعوب شديدة التخلف بالنظر إلى علاقتها بربها، ولا يمكن بحال أن يكون المُنكِر لفكرة الإله متحضرًا، مع وجود كل الشواهد البَيِّنَة على وجوده وقدرته وإعجازه، ولا يمكن لمن قَبِلَ أن يسجد لبشر أو لحجر أو لبقر أن يكون متحضرًا. وغير ذلك، ولكن هذا جانب من عدَّة جوانب تُؤْخَذ في الاعتبار. وبهذه المقاييس فإنني أستطيع أن أقول - وبلا تحيز أو محاباة-: إن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة في الكون التي حَقَّقَت التفوق في العلاقات الثلاث؛ وتفهم كيف تعبده حقَّ العبادة، وهي التي جعلت إتمام الأخلاق أجلَّ مهامها بعد عبادة اللّٰه تعالى، وتعاملتْ بهذا الخُلق الحسن مع كامل أبناء أُمَّتها من القريب والبعيد، ثم تجاوزت ذلك إلى التعامل الحسن مع كل المخالفين والمعارضين، مما يعني أن المسلمين حتى في حال حربهم، وشدة اختلافهم مع الآخرين يحترمون الضوابط الأخلاقية، ويتعاملون بالتحضُّر اللائق بهم كمسلمين، والحضارة الإسلامية هي التي شَهِدَتْ دخول امرأة النار في هِرَّة حبستها )، وهي التي شَهِدَتْ كذلك دخول الجنة لرجل سقى كلبًا، وفي رواية لبغي سقت كلبًا، وغيرها من العلوم. ومن هنا نفهم قول اللّٰه تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، فهذا ليس أمرًا عارضًا لا أساس له، ثم إننا الوحيدون الذين نعرف الضوابط السليمة، فمعظم البشر يعبدون ما يعبدون، والمقياس الصحيح للعبادة عند المسلمين فقط، وكثير من البشر يتعاملون بأُطُر أخلاقية مُعَيَّنة، ولكن قد يختلفون في تحديد هذه الأخلاق وقياسها، قد يُعْتَبر ظلمًا في مجتمع آخر، وما يراه البعض قمة الرحمة، قد يكون في عين الآخرين قمة القسوة، حيث الشريعة التي حفظها اللّٰه للعالمين. وهذا الكلام يعني أن صلاحية الحكم على المجمعات المختلفة من حيث التحضر أو التخلف قد أُعْطِيَتْ لأمة الإسلام بالمنهج الذي أنزله اللّٰه عليها، وهذا المعنى تحديدًا هو ما نفهمه من قول اللّٰه مالى: (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، فنحن نشهد أن المجتمع الروماني قد تحضَّر في كذا وتخلَّف في كذا، ونشهد كذلك على المجتمع الفارسي أو الهندي أو الصيني، ونشهد - أيضًا - على المجتمعات الأوربية والأمريكية الحديثة، ونشهد - كذلك - على المجتمعات التي ستأتي إلى يوم القيامة، وكذلك من الرسول الأكرم في السُّنَّة المطهرة، وهو ما نفهمه من الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري ، أَيْ رَبِّ. فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، إنما نتحدَّث عن ((الحضارة النموذج)، التي ينبغي لكل المجتمعات أن تقيس نفسها عليها، وهو ما سندركه حتمًا عند قراءة صفحات هذا الكتاب، وفتحت بعض الأبواب؛ بحر الحضارة الإسلامية. وفيهما جاءت القوانين والتشريعات الدقيقة، التي تكفل قيام حضارة سوية راقية في كل المجالات، حتى المجالات المادية - بل والترفيهية - كانت موجودة في هذا التشريع المحكم؛ ومؤسسي أعرق حضارات الدنيا، وهو ما انتبه إليه الفاروق عمر، فأعَزَّنا اللّٰه بالإسلام، وهو: إذا كنا قد وصلنا إلى هذه الحالة الباهرة من التقدُّم والرقي، وتخلف؟! وأهملوا لقرآن والسُّنَّة، بل وأكثر من ذلك، وعن وسائل النهضة، والاعتزاز به، لا من باب الكبر والخيلاء، ولكن من باب اليقين بما في أيدينا، والشفقة على من حولنا؛ حيث إن البشر قد يتَّجِهون إلى كارثة - بل إلى كوارث - وهم لا يشعرون، ولا نجاة حينئذ إلا في حضارة المسلمين، ولعلَّ هذا المعنى كان واضحًا جدًّا في كلمات جوستاف لوبون، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًّا سوى مؤلفات العرب؛ فهم لذين مَدَّنُوا أوربا مادةً وعقلاً وأخلاقًا، والدراسة المتعمقة لهذا الكتاب، أما الإجابة عليه فأجعلها في آخر الكتاب،