والتقدم الحضاري الذي أحرزته جماهير المسلمين في ايران سار في الطريق نفسه الذي سلكه التقدم السياسى وقد مر بمرحلتين متمايزتين:المرحلة الأولى موازية للمرحلة التي قطعتها العناصر الإيرانية في مجال التقدم السياسي طوال العصر العباسي الأول . وقد ظهر أثر الايرانيين فيها واضحا في نظم الحكم ، والاجتماعية و في الحياة الثقافية ولكن هذا التقدم كان في نطاق العروبة وتحت علم الخلافةوالمرحلة الثانية موازية لمرحلة الامارات الاسلامية المستقلة والنفوذ البويهي في الوقت الذى وضح فيه ضعف الخلافة وفقدان سلطانها . وأهم ما تميزت به هذه المرحلة نهضة الأدب الفارسي شعرا ونثرا . أ ) المرحلة الأولى : تقدم العناصر الايرانية فى نطاق العروبة وتحت علم الخلافة : نظم الحكم :كان من أثر اسلام الايرانيين واعتماد الدولة العباسية عليهم وتقدمهم ذلك التقدم السياسي الذى بيناه أن بدأت الحياة الاسلامية تشهد احياء التقاليد الايرانية فى نظم الحكم . وقد أفاد العباسيون على نطاق واسع من التقاليد الادارية الفارسية القديمة ، يقول برنارد لويس « وكانت الادارة عند العباسيين تطورا للادارة عند الأمويين المتأخرين واعترف المنصور بدينه الكبير للخليفة الأموى هشام بن عبد الملك في تنظيم الدولة ، الا أن تأثير النظام الفارسى المعمول به أيام الساسانيين أخذ يزداد قوة ، وكثير من شعائر العباسيين تقليد متعمد للعادات الفارسية التي أصبحت معروفة ٱن ذاك عن طريق الموظفين الفرس ، وقد كان المنصور في الحقيقة هو المشرع الادارى للعصر العباسي ، كان يسير على خط هشام ابن عبد الملك فى الافادة من التجارب الفارسية القديمة. كما أن اتساع سلطان الخلافة وتنوعها وكثرة مشاكلها الداخلية والخارجية تطلب التوسع في الدواوين بصورة لم تكن مألوفة من قبل . وكانت هذه الدواوين كلها تنقسم الى مجموعتين رئيسيتين : الأولى للتوجيه الاداري والمكتبات الرسمية مثل البريد والمراسلات والتوقيع والخاتم ، والثانية مختصة باستباب الأمن في الدولة وتوفير الحماية لها مثل الشرطة و الحسبة والجند . وقد تسربت العناصر الايرانية - كما تقدم – الى جميع أجهزة نظم الحكم ؛ تسربت الى جميع الوظائف الصغرى في العاصمة والأقاليم ، بل بدءوا يتولون بعض المناصب ذات الأثر في توجيه الدولة كمنصب الوزير والكاتب ، واحتكروا هذا المنصب طويلا واشتهرت منهم طائفة ، أمثال الفضل بن سهل ، والحسن بن وهب وغيرهم . وتطرقت هذه العناصر الى أرفع المناصب في الدولة مثل منصب الولاية على البلدان وقيادة الجيش ، اذ تسربت هذه العناصر الى النظام الحربي للدولة وأصبحت بعضى الوقت اليد الضاربة للخلفاء العباسين . وقد دخل أفراد الطبقة العاملة ميدان الجندية وفرض لهم العطاء . وكان الخراسانية أهم العناصر المقاتلة في الجيش العباسي . كانوا هم في الحقيقة حرس الخليفة وقوته الضاربة وبيدهم زمام الجيش حتى كان عهد المعتصم ، ووجد أن خراسان لم تعد المنبع الوحيد الذي يمكن أن يمد الدولة بحاجتها المستمرة الى العناصر المحاربة . وسيطرت العناصر الإيرانية - كما قلنا على القيادات العسكرية في الجيش والأسطول . وفرض لهم العطاء أكثر من سواهم وجهزوا بأفضل سلاح وأكمل لباس .وكان عطاء الجندى من المشاة زمن أبي العباس السفاح نحو تسعمائة وستين درهماً في السنة فضلاً عن الطعام والمخصصات . وكان الفارس يتناول ضعف ذلك ثم تضاعف مقدار العطاء حتى بلغ أقصاه في زمن المأمون .