قال وهو يرمي بالملف على طاولة مكتبي; لقد هز أركان روحي وهدم ذاتي. انهمكت أقلب أوراق الملف الصفراء الباهتة. ثمة رسومات مبهمة وخطوط كنتورية لتضاريس مخيلة مجنونة. يقتضي عملي متابعة أمر ازالة تلك البيوت التي قررت اللجنة بجرة قلم محوها من على الخارطة. مباني عتيقة هزت كيانها حركة العمران المتسارعة; (تلك البيوت القديمة عار على النهضة العمرانية. لقد شوهت وجه المدينة تماما). هكذا رد المهندس رئيس لجنة التخطيط على سؤال المذيعة المتأنقة عن القيمة التراثية لهذه البيوت; كنت أرى البنايات الزجاجية تقف بخيلاء على قارعة الطريق; و تنظر إلى بيوت البلدة القديمة من عل بإشمئزاز. وكانت كل الأدلة المادية والظرفية ضده. برتابة أضع سهما باللون الأحمر على صدرها ثم أعود بعد مدة; أتكئ على جدار اللامبالاة وأرقب الآلات المفترسة وهي تقضم أوصال البيوت كقطع البسكوت بتلذذ. تذوب الألفة بين فكيها في لحظة هي بمقدار بلع الريق ومد اللسان لتذوق طعم الفاجعة في شفتي صاحب الدار اليابستين المشققتين. ولا تكتفي الآلة القاسية بذلك وحسب; كومة من الحجارة المصبوغة بالأحلام والآمال والدموع ورسومات طفولية; تحملها الشاحنات إلى مقبرة التاريخ حيث تتحلل وتذوب في تربة النسيان. كنت أضع السهم الأحمر من جدار إلى جدار وكأنني أرقم بضاعة رخيصة تالفة; نظارة قاتمة علها تحجب ملامح الإنكسار والصدوع التي كنت أراها في تلك البيوت قبل وجوه أصحابها. هل الكبرياء يمنعهم أم أن قلة الحيلة غطت قلوبهم وفاضت وتدفقت كما مياه الصرف التي تحاوط بيوتهم من كل الأركان؟ عندما فتحت الملف وظهر اسم الحي بحروفه المموهة بالخط الأحمر; أنقر بطرف عيني أسماء الشوارع والأزقة كما غراب حط على الشاطئ في شباك ممتلئة بالأسماك وكان الصياد غافلا في بطن القارب. الكلمات نبتت بيوت والأسطر تمددت أزقة والفواصل استراحت لنواصي. أحاول أن أخبيء عيني بين الأزقة ولا أقدر; أبو علامة صارت بذهني طبقة شفافة من الثلج سرعان ما تذوب عندما تسطع عليها شمس الصباح; توقفت عيناي عند المخبز البلدي الذي يسد الزقاق كقاطع طريق كريم; أراد المدير مكافأتي ولكنه يعاقبني بهذا العمل. كيف ستقنع نفسك أنك تمضغ بخيالك أحداثا طفولية مضحكة؟ وهل ستترك لك قوانين لعبة الحياة مكانا لتمارس فيه مراهقتك أم سيأخذك قلبك وسط كل هذا الضجيج إلى عوالم من السحر اللامتناهي؟. ومع علمي أنها كانت ستحرجني لو قالت نعم وتجرحني لو قالت لا ولكنني لم اكن لاكترث. أكتفي بالاجابة الرمادية لعل; أضع كفي المتعرقين في جيوب بنطالي الوحيد وأمضي نشوان وأنا أدندن بالنغمة الحلوة; فيخرج صوتي كالتيس الصغير; يغازل معزة تفوقه في الطول. أبي طامح فوق أريكته في الصالة وبجواره براد الشاي; فأتت مهرولة تحمل سنواتها الستين وقرونا من اللهفة. قبلتني واشتمت عنقي وتحسست وجهي وصدري وساعدي وصرخت( لماذا أنت هزيل ألا تصنع لك ابنة نجار المراكب الطعام؟). وهرولت مهمهة إلى المطبخ. قم بعملك واياك أن تتراجع; بعد مدة حضرت ومعي كتيبة الاعدام و كانت الصحافة وقنوات التلفزة حاضرة; والشمس في رابعة النهار وقفنا كجيشين متقابلين في ساحة سوق النسوان وكان الترقب سيدنا القاسي الذي لا يغمض له جفن; أبي يتوكأ حفيده ابن شقيقي ويتقدم الحشد; و كان ذلك آخر صوت نقلته القنوات الفضائية قبل أن ينقطع البث المباشر لنقل وقائع جلسة البرلمان.