وأما الوجه الثاني وهو فائدة الأمر فانه لما كان الأمر هو بعث من آمر لمأمور على إيقاع فعل في زمان وجب أن ننظر في فائدته في هذه الأشياء كلها فننظر في فائدته في الفعل الذي هو بعث عليه وفيما يتبع ذلك الفعل وأما النظر في فائدته في الوقت فان الأمر إما أن يكون مقيدا بوقت محدود وإما أن لا يكون مقيدا بوقت فيجب أن ننظر فييما ليس بمقيد هل يقتضي التكرار أم لا وفيما هو مشروط بشرط يتكرر هل يقتضي التكرار بتكرار الشرط أم لا وإن لم يفد مطلقة التكرار هل يجب تقديم فعل المرة أم لا وهل إذا لم يقدمها المكلف اقتضى الأمر فعلها فيما بعد أم لا وإن كان الأمر مقيدا بوقت محدود له أول وآخر نظرنا هل يوجب الأمر الفعل في جميعه على البدل أو يوجب تقديمه في أوله أو يوجب تأخيره إلى آخره وهل إذا عصى المكلف المأمور به اقتضى الأمر فعله بعده أم لا وأما النظر في فائدته فيما يرجع إلى المأمور فبأن ننظر هل يدخل الكافر والمرأة والعبد والصبي في مطلقه أم لا وإذا تناول جماعة وكان بعضهم يقوم مقام بعض في ذلك الفعل هل يفيد الإيجاب على جميعهم على البدل أم لا غير أن الكلام في دخول الكافر والمرأة والعبد والصبي يليق بأبواب العموم والخصوص لأنه كلام في شمول الخطاب لهم ونفي شموله لهم ومن يقول إنهم يدخلون تحت الخطاب يقول ذلك لأن لفظ العموم يشملهم ومن قال لا يدخلون فيه أو بعضهم يقول إن فقد تمكنهم من الفعل يخرجهم عن الخطاب وأما الوجه الخامس فإنا ننظر في شرائط حسن الأمر ونحن بمعونة الله نأتي على الكلام في هذه الأبواب على النسق إن شاء الله عز و جل اعلم أنه لا شبهة في أن قولنا أمر يقع على جهة الحقيقة على القول المخصوص وذلك غير مفتقر إلى دلالة واختلفوا في وقوعه على الفعل فقال أكثر الناس إنه يقع عليه على سبيل المجاز وقالت طائفة من أصحاب الشافعي إنه يقع عليه على سبيل الحقيقة وقالت لذلك إن أفعال النبي عليه السلام على الوجوب لأنها داخلة تحت قول الله سبحانه فليحذر الذين يخالفون عن أمره وأنا أذهب إلى أن قول القائل أمر مشترك بين الشيء والصفة وبين جملة الشأن والطرائق وبين القول المخصوص يبين ذلك أن الانسان إذا قال هذا أمر لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد كما أنه إذا قال إدراك لم يدر ما الذي أراد من الرؤية واللحوق فاذا قال هذا أمر بالفعل أو قال أمر فلان مستقيم أو قال قد تحرك هذا الجسم لأمر من الأمور وجاءنا زيد لأمر من الامور عقل السامع من الأول القول فان قالوا إن اسم الامر يقع على جملة ما وجد من الأفعال ولا يلزمنا أن يطرد في آحادها لأنا لم نجعله عبارة عن آحادها والجواب إنا وإنما تكلمنا على من جعل اسم الأمر عبارة عن آحاد الأفعال وهو مذهبكم ولهذا استدللتم بقول الله سبحانه وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر والمراد بذلك عندكم كل فعل من أفعاله فأما من قال هو عبارة عن جملة الأفعال فقد أبعد أن اسم الأمر يتناول جملة شأن الانسان أفعاله وغير أفعاله ولا طريق إلى العلم بان جملة الافعال وحدها يقع عليها هذا الاسم ألا ترى أن قول القائل أمر فلان مستقيم وهذا يدخل فيه شأنه وطرائقه أفعاله وغير أفعاله واحتج من جعله واقعا على الفعل حقيقة بوجوه ومنها قوله سبحانه وتعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر والجواب أنه ليس المراد بذلك أن فعله كلمح بالبصر وإنما المراد بذلك أن من صنعته وشأنه أنه إذا أراد شيئا وقع كلمح البصر في السرعة ومنها قولهم قد خولف بين جمع الأمر إذا أفاد القول وبين جمعه إذا أفاد الفعل فقيل في الأول أوامر وفي الثاني امور فدل على أنه حقيقة فيهما والجواب أنه قد حكي عن أهل اللغة أن الأمر لا يجمع أوامر لا في القول ولا في الفعل وأن أوامر جمع آمرة وأيضا فان أمر وامور يقع كل واحد منهما موقع الآخر إن استعمل في الفعل على ما ذكروه وليس أحدهما جمعا للآخر ألا ترى أنه يقال أمر مستقيم فيفهم منه ما يفهم من قولنا اموره مستقيمة وعلى أن اختلاف جمعيهما ليس بأن يدل على أنه حقيقة فيهما بأولى من أن يدل على أنه مجاز في أحدهما وحقيقة في الآخر فان قيل الجمع أحد أدلة الحقيقة وقد جمع الأمر أمورا إذا استعمل في الفعل كان لمن يسلم لهم استعمال اسم الأمر في الفعل أن يجيب بالوجهين الأولين فأما نحن فلا نسلم ذلك وإنما نقول إنه مستعمل في جملة شأن الانسان وأحواله أفعاله وغير أفعاله ومنها قولهم لو وقع قولنا أمر على الفعل على سبيل المجاز لكان لها مجازا إما بالزيادة وإما بالنقصان وإما بالنقل والتشبيه وليس بين القول والفعل شبه فعلمنا أنه ليس بمجاز فيه وجوابنا أن اسم الأمر ليس يقع على الفعل من حيث هو فعل لا على سبيل المجاز ولا على سبيل الحقيقة وإنما يقع على جملة الشأن حقيقة وهو المراد بقول الناس امور فلان مستقيمة فأما أصحابنا فانهم سلموا وقوع ذلك على الفعل وقالوا إنه مجاز فيه بزيادة معنوية لأن جملة أفعال الانسان لما دخل فيها القول سميت الجملة باسم جزئها وهذا لا يصح لأن الانسان قد يقول أمر فلان في تجارته أو صحته مستقيم ولا يدخل في ذلك أمره الذي هو القول وقيل ايضا إن الأفعال تشبه الأوامر في أن كل واحد منهما يدل على سداد أغراض الانسان ولا يلزم أن يسموا النهي والخبر أمرين لأن المجاز لا يجب اطراده وهذا لا يصح لأن القول المخصوص إنما وقع عليه اسم من حيث كان نعتا مخصوصا على الفعل فكان يجب أن يقع الشبه بينه وبين الفعل من هذه الجهة وإن لم يشتبها في فائدة الاسم من كل وجه يجب أن يكون المتلفظ باسم الأمر إذا عنى به الفعل أن يعني به ما ذكروه من الشبه ومعلوم أن ذلك لا يخطر بباله ألا ترى أن الرجل إنما يجوز اسم الأسد فيه من حيث أشبهه في الشجاعة التي هي باب في أن قولنا أمر إذا وقع على القول ما الذي يفيد أما الشرط الأول فلا شبهة في أن اسم الأمر يقع حقيقة على ما هو من القول بصيغة افعل أو ليفعل فانه لا يقع على سبيل الحقيقة على الخبر والنهي والتمني ولذلك لا يقال لفاعل ذلك آمر وأما الشرط الثالث وهو الارادة فمختلف فيه بالخبر به لا بشرطه لقولها إن الله يأمر بالطاعة ولا يريدها ومن الفقهاء من يقول إن الأمر أمر لصيغته وذلك يوهم أنهم يقولون إنه استحق الوصف بانه أمر لصيغته والبغداديون من أصحابنا يقولون إن الأمر أمر لعينه والكلام في هذه المسئلة يكون من وجهين أحدهما أن نفرض أن للأمر حكما لاختصاصه به يكون امرا ونبين أن الوجه في اختصاصه بذلك الوجه هو الارادة على طريق التعليل والوجه الآخر أن لا يثبت للصيغة حكما يرجع إليها وننظر هل المعقول من قولنا أمر هو الصيغة وحدها أو الصيغة مع شرط آخر هو الارادة وإنما فصلنا بين الوجهين لأن كثيرا من الناس ربما أدخل الكلام في أحدهما في الآخر ونحن نجري الكلام على الوجه الثاني لفساد الوجه الأول فنقول إن المعقول من قولنا إن اللفظة أمر هو أنها على صيغة مخصوصة مفعولة على وجه العلو وأنها طلب للفعل وبعث عليه ولسنا نعقل من هذه اللفظة شيئا آخر وقد تقدم بيان القول في الرتبة والصيغة فأما كون الصيغة طلبا فنحن نشرع في تفصيله فنقول ليس يخلو إما أن تكفي صيغة الأمر في أن تكون طلبا للفعل من غير أن يشرط معها إثبات شيء ولا نفي شيء أو لا تكفي في ذلك فان كفت في ذلك حتى تكون أمرا على أي وجه وجدت عليه لزم أن يكون التهديد أمرا وكلام الساهي أمرا إذا كان على صيغة افعل وإن وجب أن يشرط في كونها طلبا شرط زائدا على صيغتها ووجودها لم يخل إما إن يرجع إلى المأمور أو المأمور به أو إلى الأمر أو إلى محل الصيغة ولا تعلق لمن عداهم بها فيذكر ولا يجوز رجوعه إلى المأمور من كونه محدثا وموجودا وقادرا وغير ذلك ولا إلى المأمور به من كونه حسنا وواجبا وندبا لأن كل ذلك يحصل مع التهديد ألا ترى أن الانسان يهدد على فعل الواجب والحسن وإن رجع ذلك الشرط إلى الآمر لم يخل إما أن يكون من قبيل النفي أو من قبيل الإثبات وما هو من قبيل النفي أن يقال إن الصفة كانت أمرا لأنه لم يدلنا على أنه غير أمر أو أنه لم يدلنا على أنه تهديد أو إباحة ولا ذم كقول الله سبحانه قال اخسئوا فيها ولا تكلمون أو أنها وجدت منه وليس بكاره للفعل أو أنه غير كاره للفعل ولا ساه عنه وأكثر هذه الأقسام يقولها الفقهاء وأما قولهم إنه لم يدلنا على أنها غير أمر فانه يقال لهم ما معنى قولكم أمر حتى نعقل الدلالة على إثباته أو على نفيه وهل مطلوبنا إلا أن نعقل معنى الأمر ما هو وأما قولهم إذا لم يدلنا على أنها تهديد أو إباحة أو إرشاد فانه يقال لهم قد يهدد من ليس بحكيم غيره ولا يدل على أن ما فعله تهديد لضرب من ضروب السفه ولا تكون الصيغة التي فعلها أمرا ويقال لهم أيضا إذا لم يدلنا على ذلك فانما نقضي بأنها أمر لو كان الأمر هو كلما كان على هذه الصيغة ولم يكن إباحة ولا تهديدا ولا ذما وليس الأمر كذلك لأن كلام الساهي قد خلا من هذه الأقسام وليس بأمر ولا طلب للفعل ولهذا لا يسمى أمرا ولا طلبا وعلى أنه إنما يتم ما ذكروه إذا أعقلونا معنى التهديد حتى يعلم في الصيغة إذا لم يكن تهديدا ولا إباحة أنها أمر فما التهديد فان قالوا هو ما كان على صيغة افعل مع الكراهة للفعل قيل لهم ولم كانت الكراهة شرطا في كون الصيغة تهديدا ونفيها شرطا في كونها أمرا بأولى من أن تكون الارادة شرطا في كون الصيغة طلبا ونفيها أو ضدها شرطا في كونها تهديدا فان قالوا معنى التهديد هو الصيغة بشرط انتفاء الدلالة على كونها أمرا كانوا قد علقوا كونها أمرا بفقد الدلالة على أنها تهديد وعلقوا كونها تهديدا بفقد الدلالة على كونها أمرا وهذا محال فأما الكلام بأن الصيغة إنما كانت طلبا وأمرا لأن المتكلم بها ما كره الفعل فإنه يلزم عليه أن يكون كلام الساهي والعابث أمرا وطلبا لأنه غير كاره للفعل فأما القول بأنها إنما يكون طلبا للفعل إذا كان المتكلم بها غير ساه ولا كاره للفعل ولم يقصد بها الاباحة والذم والتحدي وغير ذلك فانه يقال لهم إذا كان المتكلم غير ساه فلا بد من أن يكون غرضه بإيرادها شيئا من الأشياء فاذا لم يكن غرضه ما ذكرتم فلا بد من أن يكون غرضه إيقاع المأمور به وفي ذلك الرجوع إلى أنه لا بد من غرض وإرادة فقد تم ما ذكرناه من إثبات غرض أو إرادة ويجب أن تكون الصيغة إنما كانت طلبا من حيث طابقت هذا الغرض لا من حيث أن المتكلم بها ليس بساه لأن فقد السهو ليس باثبات للفعل فيكون القول به طلبا فان قالوا إنما نعني بقولنا إن الامر كان أمرا لصيغته إذا تجردت أي أنها إذا جاءت متجردة من حكيم اكتفينا بذلك في الحكم عليها بأنها أمر وإنما يحتاج في أن المتكلم استعملها في غير الأمر إلى دلالة قيل لهم فهذا موضع وفاق وليس هو مطلوبنا وإنما مطلوبنا ما الذي يفيده قولنا أمر فيها فأحدها مفارق للآخر