يقوم تصورنا للعالم ككل والعالم المحيط بنا على مبدأ السببية أساسا. ولغتنا تزخر بالكلام السببي، ونحن نستعمل كلمة ( سبب ) في صيغة الفعل والاسم دائما في عباراتنا وأحاديثنا اليومية بصورة مباشرةكقولنا مثلا ( التدخين يسبب السرطان ) ، وبصورة غير مباشرة كقولنا ( القراءة الواعية تؤدي الى مرونة في التفكير ) أو ( الألفاظ النابية تثير الانزعاج ) وغيرهما كثير .وهكذا نستعمل كثيراً من الأفعال والوقائع التي تفترض مسبقاً السببية . والمسألة التي يجب أن تكون في مدار البحث بالتالي، تتعلق بطبيعة السببية .وأفضل طريقة لبيان طبيعة السببية أن نتمثلها، والواقع أن الظواهر السببية هي حوادث، ونحن نفكر في السببية بوصفها علاقة بين الحوادث، فهناك دائما حادث يسبب حادثا أخر، أو نسمي الأول ( علة) و (الثاني ) معلولا .والسببية بوصفها علاقة بين حوادث أو ظواهر هي التي تجعل عالمنا متماسكا، وتجعل ظواهر العالم مرتبطة بعضها مع بعض، ومن دونها تتحول إلى مظاهر منفصلة ومستقلة، وما كان من الممكن أن يكون عالم كهذا العالم الذي نعيش فيه ونتصوره. إن السببية " نوع من الماكنة التي تحافظ على استمرار حركة عالمنا، ومن دون هذه العلاقة لن يكون للتغيرات والصيرورات ، التي تؤلف تاريخ العالم،ولا يقتصر الأمر على العالم الطبيعي، وانما تستغرق علاقة السببية العالمين: العالم الطبيعي والعالم الذهني، فاعتقادي بان السماء ستمطرٍ.سببيا لماذا أضع شمسيتي على رأسي وأنا خارج من بيتي إلى عملي. والواقع ان السببية لا تعمل في مجرى تفكيرنا اليومي المعتاد،وانما تعمل ايضاً في مجرى تفكيرنا الأكثر تخصصا، أو في العلوم الأكثر قربا من حياة الناس مثل الطب والقانون ، أو العلوم الأكثر بعد منها مثل العلوم الفيزيائية الدقيقه قد جعلت منها موضوعا هاما للتحليل الفلسفي - الميتافيزيقي. والواقع ان الفلاسفة إهتموا إهتماما كبيرا بتحليل هذا المفهوم، يشهد على ذلك تاريخ الفلسفة. وقد أسفر هذا التحليل عن تفسيرين أساسيين : التفسير التقليدي والتفسير الحديث، وقبل ان نوضح هذين التفسيرين والرد عليهما، لنقل كلمة حول معنيين ترد بهمايمكن تسمية المعنى الأول بالمعنى الظاهر، بالمعنى الباطن فسبب ( الزكام ) مثلا هو التعرض للبرد، أما اذا قلنا أن هذه الظاهرة المرضية هو عملية كيميائية تَغيّر أنسجة الرئتين وتؤدي إلى الاكثار من الجراثيم . فان السببية بالمعنى الظاهر تقف عند مستوى الظاهرات التي يراد تحليل علاقاتها، وأما السببية بالمعنى الباطن فتتجاوز الظاهر وتبحث عن ما يكمن وراء الظاهرة.إن السببية بالمعني الباطن تنتمي الى مستوى من مستويات الحقيقة أبعد غوراً وأكثر خفاء، تقول: ان السببية بالمعنى الظاهر تتركنا عند مستوى الظواهر المحسوسة، والسببية بالمعنى الباطن تدعونا الى الدخول في ميدان «المعقول» كما في أمثلة كثيرة مستمدة من البحث الكوني والفلكي والميتافيزيقي.والان نعود الى تفسير السببية، قلنا أن للسببية تفسيرين : تفسير