أيوب أبو دية في كتابه إسماعيل مظهر من الاشتراكية إلى الإسلام إلى أن المرحلة الفكرية الأولى لإسماعيل مظهر كانت تحمل بين طياتها بذور المادية الصارمة والعلمانية القاسية، عدا عن النزعات الإلحادية الواضحة والتي لم يهادن الرجل فيها على الإطلاق. لم تكونا ذات نفع يذكر لا لمصر ولا لإسماعيل مظهر، فكانتا بعيدتين عن الواقع تماما . وكان ذلك مدعاة لأن ينسحب مظهر ويعود إلى التراث تارة وخصوصية الفكر المصري تارة أخرى؛ فارتد إلى ذلك جامحا فكره وخياله مرة هنا، أبو دية إلى إن مظهر كان نشوؤه أرستقراطيا مثقفا وسط طبقات تجتاحها النزاعات، وتعصف بها الخلافات؛ فمصر كانت حاضنة لطبقات عدة لم تكتمل شروط نضوجها، ولم تصل إلى الشوط البعيد الذي قطعته طبقات أوروبا المنظمة فكرا وعملا؛ فحزب الوفد والإخوان كانا يسيران على طرفي نقيض، في حين أن البرجوازية المركزية لم تخب نارها مع أعدائها التقليديين، وعلى رأسهم الإقطاع الذي كان وجوده في فترة تطلعت فيه برجوازية المركز للوصول إلى نهضة تاريخية تتخذ من مشروع البرجوازية الغربية في عصر النهضة مثلا أعلى تهتدي بهداه، وتتوق للوصول إلى مستواه. في ظل ذلك تأججت لدى إسماعيل مظهر نوازع التغيير التاريخي تبعا لما تتطلبه المرحلة الحرجة التي تنأى مصر بحمل تبعاتها في مطلع القرن العشرين، فحمل الإقطاع والاستعمار مسؤولية الإنتاج الإقطاعي غير المنظم، واحتذى بما توفر أمامه من مشاريع نهضوية ولعل أغلبها إن لم يكن الوحيد المشروع النهضوي الأوروبي، فصاغه أنموذجا يعمل له في ظل فلسفة تتأثر بالفلاسفة الإنجليز، بل تميل لأن تصبح نسخة طبق الأصل عن فرانسيس بيكون، وهو، وإن كانت تلهب حواسه الحماسة الوطنية التي اكتسبها واستمدها من الحزب الوطني ومؤيديه، كان طموحا لدرجة أنه رفض رئاسة حزب الوفد في ظل طبقات تشتعل جذوتها حينا، ويضيف د. وسلامة موسى، إنما هي إذكاء للتخلف وتنمية له. وفي تبين ملامح فكره يرى أبو دية أن مظهر قد خطا خطوات واسعة في فكره المادي العلماني الداروني، غير أن هذا الجموح لم يلبث أن خمدت حدته فتوقف عن الكتابة حتى عام 1945، ثم عزز انتاجه بعد ذلك. ويمكن أن يعزى هذا الخمود الفكري إلى الكساد العظيم في الثلاثينيات، والتحضير للحرب القريبة، خرجت الدول المتحاربة منهكة، وخلفت آثارا دامية في البلاد والبشر، فبدأت بوادر الانعتاق الفكري بالظهور، وبدأ المشروع الفكري لإسماعيل مظهر بالانحراف قليلا عما كان عليه، ومن جملة ذلك تعويله على ثقافة تقليدية لتاريخ العرب والمصريين القدماء دون أن ينسلخ عن فكره المادي القديم، ولعل هذا التحول الطفيف كان بسبب ما ألحقته الحرب من دمار. ويرصد أبو دية ثلاث صدمات متتالية عاشها مظهر : الأولى الحضارة الغربية وثقافتها التنويرية النهضوية، والثانية الواقع الموضوعي المصري الذي لم يدع الأفكار تنفلت من عقالها إلى التنفيذ، والثالثة بشاعة الحرب وآثارها . على الأقل في فكره. والحرب الباردة، وثورة الضباط الأحرار وحرب السويس و. كل ذلك كان له ما وراؤه. ويضيف أبو دية أن البحث في الفكر المادي ليس من السهولة بحيث نلغي عصوره التي نشأ فيها، فالنظرية النيوتونية (المصاغة في القرن السابع عشر في إنجلترا) مرتبطة بفرضياتها كالزمان المطلق، والمكان المطلق، والفراغ المملوء بالذرات الديمقريطسية . وهكذا. والمادية كذلك؛ ففرضياتها المصاغة لها حدود هي الأخرى، فليس ثمة اتفاق على تعريفات واضحة وجامعة لها في تاريخها الطويل: فهناك المادي المؤمن والمادي الملحد، وهناك المادي الذي يطرح المادة كأساس للوجود المادي، ويجعل المادة تعمل وفق قوانينها الذاتية، وهناك الطبيعي الذي لا يختلف عن الأخير إلا من حيث طرح الروح كأساس للوجود المادي، فهو يترك المادة تعمل من خلال قوانينها الذاتية أيضا. ويلخص أبو دية ما سبق بإشارته إلى أن المادية لا بد وأنها تطورت تاريخيا، ويضيف ان مادية مظهر كانت أقرب إلى مادية القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، وإن تلونت في كثير من المواقف ب اللاأدرية أو اكتنفت واتحدت مع وحدة الوجود عند سبينوزا وذلك ضمن تكتيك يتبعه مظهر عندما يحس بالجور والمغالاة، وكانت مسائل نشوء الكون، ودبيب الحياة الأول في الجماد، مسائل يحافظ اسماعيل مظهر على مواقفه منها، فبعد العام 1945 تفادى الحديث عن مسائل نشوء الكون ودبيب الحياة الأول في الجماد، فهو عندما يترجم كتاب حياة الروح في ضوء العلم يقرر أن هذا البعد الغائي ليس سوى حدث مادي جاء في سياق تطور تاريخي سحيق ارتبط بتطور البشرية، .. فظلت الفلسفة المادية منسجمة مع المنهج المادي الذي يؤمن به إلى حد كبير. وفيما يخص مسائل العلم الاجتماعي؛ يشير أبو دية إلى ان مظهر كان انطولوجيا ماديا يتلمس ما يمكن اقتباسه عن الغرب؛ فاللغة الفصحى والعامية كانتا على درجة متساوية في فكره وحتى نهاية العام 1930، فقد تأثر بالاتجاه العلماني الأوروبي والتركي، وتأثر كذلك بما نادى به احمد لطفي السيد وقاسم أمين بخصوص سيادة اللغة العامية، كان ذلك كله مستمدا من الغرب وبالتحديد من التجربة الأوروبية (الفرنسية، الإنجليزية) في الكتابة والتعبير، فكانت النهضة الأوروبية إنموذجا يجب القياس عليه. فمصر ذات لغة عامية هي أساس اللغة العربية، وتاريخ مصر لا ينكره إنسان. وفي أواخر العام 1948، قام مظهر بوضع ما يعرف بالنحت في اللغة وذلك في مرحلته الفكرية الثانية موافقا لمن يشتغلون بالمجامع العربية في أن العربية قادرة على استيعاب كل جديد . فظهرت الترجمات والنقل أو التلخيص الفكري على غرار المشروعات التي قام بها فرانسيس بيكون، وغيره. ويبين أبو دية إلى ان الحال لم يستمر كما هو عليه؛ عدا عن أن المثال الأوروبي كان عسير المنال ويصعب أن يكرر كما هو؛ فتراجع عن ذلك، وبرر بأن ذلك كان فقط لتهيئة الجو للنقل عن الآخر. فهو يطالب بأن يكون منهج النظرية أساسا في تطوير الدين الإسلامي حفظا له من التقوقع والاندثار، .. ثم نراه بعد فترة طويلة من حمله للواء الدارونية والفصل بين العلم والدين، وبين الدولة والدين يعود ليرفع من شأن الثقافة العربية، ويطالب بالمعرفة الروحية للإسلام دون المعرفة الغيبية المتغلقة. وفي العام 1961 نراه يعود بشكل ليس معهودا عنه في أن الفصل بين الدولة والدين ليس له ما يبرره وأنه لا يجوز! . وهذا معناه وضع الإسلام بديلا للأنظمة الاجتماعية الغربية من جديد. ويمكن القول إن انتهاء الحرب الثانية كان سببا في لفت انتباهه إلى الثقافة المصرية التقليدية، مع حربه الباردة على الشيوعية في كتابيه : التكافل الاشتراكي لا الشيوعية و الإسلام لا الشيوعية. ومن الملاحظ أن مرحلة ما بعد الحرب تضمنت تسوية من نوع ما مع الواقع المعاش؛ فالتغيرات الوطنية أثبتت عدم جدواها، وانبنى على ذلك النظر إلى النموذج الغربي المثال نظرة الاتهام والفشل، هذا الاتجاه لم يكن سوى العودة إلى التراث. وإسماعيل مظهر، ومن هذا المنطلق العودة إلى التراث وبالنسبة لأبي دية. كان ذا جرأة لم تتوفر لمن قبله في دراسة تاريخ الفكر العربي والتراث؛ غير أنه ومع إدراكه لوظيفة الدين المهمة، شكك في كثير من الأحاديث، وكان هجومه على القرآن وطريقة جمعه هجوما صاخبا؛ ثم هو، مع هذا، سعى في هذه الفترة الأخيرة من فكره في العام 1946 إلى محاولة الدمج بين الطبقات، تحسبا واحتياطا من صراعات طبقية لا تحمد عقباها. وحاول في نهاية الأربعينيات أن يوفق بين الاشتراكية والرأسمالية عن طريق واحد وهو التكامل الاشتراكي بين الفرد والمجتمع، فعاد يمدح النظام السياسي الإسلامي في بداية الستينات. وبالإجمال، فلكل مرحلة فكرية لديه عنوان : فالأولى كان عنوانها الحرية الدينية تأسيسا على المشروع الأوروبي الذي سيطر عليه، والثانية أجبرته على الاتجاه نحو مفهوم التسامح الديني الذي لم يستطع أن يتعداه في ظل الظروف المحيطة، والثالثة خصوصية الثقافة المصرية وأنها لا يمكن أن تبنى بسهولة على المقاييس الأوروبية المجاورة.