وَلَا أَذْكُرُ جَدَّتي إِلَّا وَهِيَ جَالِسَةٌ عَلَى سَجَادَةِ الصَّلَاةِ المَصْنوعَةِ مِنْ جِلْدِ الغَنَمِ وَفَرْوَتِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي صَلَاةٍ، فَهِيَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالصَّلاةِ. وَكَانَتْ مَلامِحُ وَجْهِهَا تَنِمُ عَنْ سَكِينَةٍ داخِلِيَّةٍ عَمِيقَةٍ ، فَكُنْتُ إِذا قُلْتُ لَها: "اللَّهُ يُخلّيكِ يا ستي" ، وَتَقُولُ: " لَا تَدْعُ عَلَيَّ يا حبيبي" . فَأَقولُ : " إِنَّما أَدْعُو لَكِ يا ستي " ، وَأَنَا أَتَعَجَّلُ لِقَاءَ رَبِّي"؟ لَمْ تَكُنْ تَقولُ ذلك تَبَرُّماً بِالحَياةِ، الدُّنيا . وَأَصَابَتْ حَظَّهَا مِنْهَا بِحُلْوِهَا وَمُرِّها . عاشَتْ جَدَّتي دينها في دُنْياها دونَ أَنْ تَصْحَبَ مَعَها مُجَلَّداتِ الفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالحَديثِ، حَسْبُها مِنْ دينها أَنَّهَا شَهِدَتِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَزَادَتْ عَلى ذلِكَ مِنَ النَّوافِلِ مَا اسْتَطَاعَتْ تَقَرُّباً وَاحْتِسَاباً، وَأَمْسَكَتْ لِسَانَها عَنِ الخَوْضِ فِي النَّاسِ، فَلَمْ أَسْمَعْهَا قَطَّ تَذْكُرُ أَحَداً بِسوءٍ، وَكَانَتْ مِنْ أَحَنِّ النَّاسِ عَلَى الفقيرِ وَالضَّعِيفِ وَاليَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ. وَجِيءَ بِهِ إِلى بَيْتِنا في طُولَكَرْمَ، لَمْ نَأْكُلْ مِنْهُ حَتَّى القَدِيمَةَ المورِفَةَ الَّتِي تَلْتَفُ حَوْلَها الأَسْرَةُ، وَكَانَ احترامُ أَبْنائِها لَها نَهْجاً . ٢٤ فَذلِكَ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنْ شَخَصِيَّتِها . كَانَ يَكفي أَنْ تَتَدَخَلَ بِرَأْبِها، فَيَقِفَ عِنْدَهُ . وَبِالطَّبْعِ، كُنَّا نُدْرِكُ ذلِكَ إِذْ كُنَّا صِغاراً، أَو نَسْتَشْفِعُ بِها لِحَاجَتِنَا عِنْدَهُ. وَلَكُمْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَسْتَلْقِيَ عِنْدَهَا، فَإِنْ أَلَمَّ بِي عَارِضَ مِنْ مَرَضِ أَوْ غَيْرِهِ، كَانَتْ تَفْعَلُ ذلِكَ وَفِي كَفَّها قَبْضَةٌ مِنْ مِلْحٍ، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنَ الرُّقْيَةِ، لِأَنَّهَا وَكُنَّا نُلِحُ عَلَيْهَا أَنْ تُعِيدَ عَلَيْنَا قَصَّ الحِكَايَةِ لِلمَرَّةِ الأَلْفِ دونَ أَنْ نَمَلَّ . وَلَا يُخْفِقُ القَصُّ المَكْرُورُ فِي أَنْ يَخْلُقَ فينا عُنْصُرَ التَّوَتُّرِ وَالتَّشْوِيقِ فِي انْتِظارِ أَنْ تَنْجَلِيَ حَقِيقَةُ المَكْرِ أخيراً، فَيَنْتَصِفَ المَظْلُومُ مِنَ الظَّالِمِ . هَزَّنِي نَبَأُ وَفَاةِ جَدَّتي، وَحَاوَلْتُ أَنْ أَكْتُبَ حُزْنِي، وَلَكِنَّهُ كانَ أَكْبَرَ مِنَ العِبارَةِ،