إذا قامت الحرب نجمت عنها عدة آثار تشمل أغلب نواحي الحياة ، لأن الحرب تغير – لاسيما اليوم – معالم الكون ، وتثير الرعب والخوف في النفوس ، وبدل الأمن والطمأنينة بالقلق والاضطراب بما يقترن بها من تخريب الحضارة والعمران، وتدمير المدن وإبادة السكان فيمد أن يكون السلم سائداً في ربوع البلاد لكل من المتحاربين تصبح الحرب هي الحكم الفصل في مقدرات الأمم والشعوب ، وتقرر مصير علاقاتهم مع بعضهم . و آثار الحرب : منها ما هو علم يتناول علاقة المتحاربين فيما بينهم أو بين غيرهم ومنها ما هو خاص بتناول الأفراد والأموال . والفقهاء المسفون لم يفرقوا بين الآثار العامة والآثار الخاصة في كل الأحوال ؛ لأنه كان المألوف أن الحرب هي كفاح بين شعبي الدولتين المتحاربتين ، دون أن يكون هناك تمييز بين ما يتعلق بالحكومات وما يختص بالأفراد ، ولا سيما بالنسبة للأشخاص والأموال . وبناء على ذلك فقد تأثرت أحكام الحرب التي قررها فقهاؤنا في هذه الناحية بالوضع -171- السائد بين الأمم ، مما جعل تلك الأحكام مبنية في الغالب على شريعة المعاملة بالمثل أما بعد استخدام الجيوش النظامية المدربة ، وإصدار الأوامر المشددة لهم بعدم التعرض للأفراد وأملاكهم ، فقد عدلت قاعدة أن الحرب كفاح بين شي الدولتين، تحت تأثير الرأي القائل بإلقاء عبد الحرب على الحكومات لا على الأفراد (۱) . وحينئذ فإنا نرى أنه يجوز الأخذ في مجال الفقه الإسلامي بالتفرقة الحديثة بين آثار الحرب بالنسبة للحكومات والأفراد، بناء على أن العلة المقررة في فقهنا لاستباحة دماء الحربين وأموالهم هي القتال والمحاربة . النسوية أما من الناحية الشكلية في تنظيم دراستنا لآثار الحرب ، فلن تقيد تلك الآثار إلى عامة وخاصة ، كما سلك بعض رجال القانون ؛ إذ أن ذلك التقسيم لم يلتزمه المؤلفون الآخرون ، ولأن الكلام في الفقه الإسلامي لا يختلف أحياناً بالنسبة للأثر العام أو الخاص . وذكر الأدلة ومناقشتها مع بعضها تعملي علينا عدم مسايرة النهج الذي يأخذ بالتقسيم السابق ، فمثلا أثر الحرب في أموال المدو يشمل العام منها والخاص ، وأثر الحرب في العلاقات السلمية بين المتحاربين عن طريق الأمان منه ماله أثر عام ومنه مالله اثر خاص ، كما سيتبين ذلك أثناء دراستنا التالية : وهكذا يكون الكلام في الباب الأول على هذا النحو : الفصل الأول – انقسام الدنيا إلى دارين أو ثلاث . وفيه مبحثان . الفصل الثاني – في أثر الحرب في العلاقات السلمية بين المسلمين وغيرهم. الفصل الثالث - في أثر الحرب في العلاقات السياسية الدولية وفيه مبحثان : المبحث الأول - أثر الحرب في العلاقات الدبلوماسية . المبحث الثاني - أثر الحرب في المعاهدات . . الفصل الرابع - الأسرى والجرحى والمرضى والقتلى. ويغلب على هذه الفصول أنها آثار عامة للحرب ما عدا الثاني منها فهو إما عام أو خاص . الفصل الخامس - أثر الحرب في الأشخاص والأموال، المبحث الثاني - أثر الحرب في العلاقات الاقتصادية. المبحث الثالث - أثر الحرب في أموال العدو . والغالب على هذا الفصل الأخير أنه من آثار الحرب الخاصة غير أن المبحث الثالث يشترك فيه الأثران العام والخاص. الفصل الأول انقسام الدنيا ابی دارین او ثلاث ستعطي فكرة في هذا الفصل عن صورة العلاقات الدولية في ظل الإسلام ؛ لأن مقر هذه العلاقات هو المجال الطبيعي لظهور آثار الحرب على مسرحه ، وسوف تبحث ذلك في مبحثين : المبحث الأول - أثر الحرب في تقسيم الدنيا إلى دارين ، ونقاش الفقهاء في العلاقات الدولية في الإسلام المبحث الثاني - هل للحرب أثر في إيجاد حالة حياد في الاسلام ؟ المبحث الأول أثر الحرب في تقسيم الدنيا إلى دارين أو ثلاث وطبيعة العلاقات الدولية في الاسلام يترتب على قيام الحرب – في القانون الدولي – بين دولتين أو أكثر انقسام العائلة الدولية (1) إلى فريقين : فريق المحاربين : ويشمل الدول المشتبكة في الحرب. وفريق غير المحاربين ، ومن اتخذ صفة الحياد : ويشمل باقي الدول الأعضاء في المائلة الدولية (٢). فهل نجد هذا الأثر في الاسلام؟ وما هي نظرة الاسلام إلى المائلة الدولية في الوقت الحاضر ؟ وهل التقسيم الذي ذكروه تقسيم دائم أم هو مجرد أثر من آثار الحرب ؟ نرى جمهور فقهاء المسلمين يقسمون الدنيا إلى دارين : دار اسلام ودار حرب ، ويعتبرون الحرب أثراً في هذا التقسيم ، حيث يتغير وصف الدار تبعاً لحالة الفتح من انتصار أو هزيمة بين المسلمين وغيرهم ، وقد رتب الفقهاء وقد تحددت فكرة العائلة الدولية ووضعت منذ مؤتمر وستفاليا سنة ١٦٤٨ وهي تقوم على أساس وجود الجماعة الدولية التي تتألف من الدول المستقلة ذات السيادة التي تستطيع الدخول في علاقات دولية، والدول متساوية في الحقوق وتطبق مبدأ التوازن الدولي للمحافظة على السلم ( راجع القانون الدول العام الدكتور حامد سلطان : ص ١٣ – ١٤، مبادىء القانون الدولي العام طبيعة ١٩٩١ الدكتور حافظ قائم : من ٤٦ – ٤٧ ) . (٢) القانون الدولي العام الدكتور علي صادق أبو هيف طبعة ١٩٥٩ : من ٠٦٥٧ 1131 على هذا التقسيم اختلافاً في أحكام الشريعة بسبب الحرب الدائرة بين المسلمين وأعدائهم، وسوف نعرض ذلك بالتفصيل . أما نظرة الاسلام إلى ما عرف حديثاً من نظام العائلة الدولية ، فإن المتبادر لأول وهلة من تقسيم الدنيا إلى دارين أن الاسلام لا يعترف بانقسام العالم إلى دول متعددة ذات سيادة ، وقانون مختلف (۱) . في بالنسبة للاسلام شيء واحد مخالف الشريعة الإله . غير أنه من المسلم به أن الاسلام يقر بوجود دول مختلفة في هذا العالم من الناحية الواقعية. فالقرآن الكريم محرم نقض العهود ويلزم الوفاء بها دون اغترار بكثرة الأمم الأخرى وثروتها وقوتها ، قال الله تعالى : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكانا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ، إنما يبلوكم الله به ، فقوله تعالى : و أن تكون أمة هي أربى من أمة ، ( أي أكثر مالاً ورجالاً وصولة مما يجعلها أعز مكانة ) دليل على إقرار وجود دول أخرى لغير المسلمين، وأن لها سيادتها وكيانها ونظامها المختلفة بحسب طبائع الأمور ، ذلك أن الاسلام بأبي التعصب المعقوت نحو الأديان الأخرى ، ولا ينظم علاقاته مع بقية الأمم على أساس الحرب كما عرفنا ، وفرق بين النزعة العالية الدعوة الاسلامية وبين الاعتراف بالواقع . وبهذا يرد على الاستاذ مجيد خدوري الذي يقول : إن قواعد القانون الدولي في الاسلام لا تقوم على أساس الرضا المتبادل بين أعضاء الجماعة (۱) راجع القانون الدولي العام : من ٤٢، والمجمعات الدولية الاقليمية : من ٢٤ الأستاذة الدكتور حافظ قائم ، وراجع القانون الدول الماس الدكتور أحمد مسلم : من ٠٥٦ ٢) النحل : ٩٢ الدولية ، ولكن على أساس تفسير المسلمين وفهمهم بمصالحهم السياسية والخلقية والدينية (١). ولكن المعروف أن الاسلام يقصد نشر الشريعة في كافة أنحاء الدنيا ، ويتلازم الدين مع قيام الدولة في دار الاسلام. هذه الدولة تقوم على العقيدة وليس ذلك تعصباً ولا تطرفاً منها ، وإنما كان ذلك هو الضمان الوحيد لقيامها على كمالها . فالعقيدة من حرية الفكر، والحكم مسلط على الحرية قبضاً وبسطا (۲۳) . ونظراً لانه لم يتحقق الاسلام بلوغ غايته في شمول نظامه، وكانت الحرب قائمة بين المسلمين وغيرهم ، فقد قسم الفقهاء الدنيا إلى دارين بحيث تضم دار الحرب جميع الأمم غير الاسلامية. فما هو الضابط الذي يميز الدارين ويحدد كلا منها . دار الاسلام تجد في تحديد هذه الدار أربعة آراء للعلماء ، تختار منها الرأي الاود) لأنه أقرب الآراء إلى نصوص جمهور الفقهاء ، وهو أن كل ما دخل من البلاد في محيط سامان الاسلام، ونفذت فيها أحكامه وأقيمت شعائره قد مار من دار الاسلام ، ووجب على المسلمين عند الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوباً كفائياً بقدر الحاجة وإلا فوجوباً عينياً وكانوا كلهم آلمين بتركه، وأن استيلاء الأجانب عليه لا يرفع عنهم وجوب ) القتال لاسترداده وإن طال الزمان (۳). يجب على المسلمين جميعهم تطويرها من الدخيل. 1) راجع الحرب والسلام في الاسلام للاستاذ المذكور : من ٤٣ . 2) الدكتور مسلم في المرجع السابق : ص ٣٣٦ . 3) تغير المنار : ١٠ ص ٣١٦ ، يجيري الخطيب : ٤ ص ٢٣٦ مقدمة ابن خلدون من ۱۹۰ ، مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين للاشعري : ص ٤٦٣ . -17— خارج وعلى هذا فدار الاسلام تشمل جزيرة العرب والبلاد التي افتتحها المسلمون ، والتي تخضع لسيادة الاسلام وسلطانه وتسري فيها النظم الاسلامية. وتسمى دار الاسلام دار البدل أيضاً و لا من العدل واجب فيها في جميع أهلها بالمساواة . ويقابل هذه التسمية اصطلاح « دار البني، وهي جزء من دار الاسلام تفرد به جماعة من المسلمين خرجوا على طاعة الامام الشرعي، ثم إنهم تحصنوا في تلك الدار وأقاموا عليهم حاكما منهم وصار لهم بها جيش ومنعة ودار الحرب : في الدار التي لا تطبق فيها أحكام الاسلام الدينية والسياسية لوجودها وتسمى عند الإباضية ودار الشركه : وهي الدار التي أمرها للشرك يجري فيها الأحكام الشركية لا يرد عنها ، ويقابلها عندهم ودار التوحيد . وتظل الدار في رأيهم دار عدل ولو غلب عليها أهل الضلال مشركين أو منافقين، ما دام يمكن لأهل العدل إظهار دينهم فيها (1) استنبط الفقهاء هذا التقسيم من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام . والمدينة صارت دار إسلام (۲). جاء في رسالة خالد بن الوليد (۳) في كتاب الخراج . وجعلت لهم ( أي أهل القدمة ) أيها شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات ، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه ، طرحت (۱) راجع شرح النيل وشفاء العليل :۱۰ ص ۳۹۰، والمراجع في الصفحة السابقة رقم ٣. (۲) انظر شرح النيل المذكور : ۱۰ ص ٣٦٣ – ٢٦٩ . (۳) هو خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي الفرقي ، سيف الله الفاتح الكبير والصحابي كان من أشراف قريش في الجاهلية ، أسلم قبل فتح مكة ) هو و مرو بن العاص ) سنة ٥٧ ، فسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاء الخيل، توفي يجمع ( في سوريا ) سنة ٢١ه . جزينه وعيل من بيت مال المسلمين وعبدالله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام ، وقال ابن حزم : وكل موضع سوى مدينة رسول الله فقد كان تفراً ، ودار حرب ومغزی جهاد ، (۳). والواقع أن استنباط تقسيم الدنيا إلى دارين من الدعوة إلى الهجرة غير سليم : لا من ذلك قد نسخ بفتح مكة ، وقول التي : و لا هجرة بعد الفتح، رواء الجماعة إلا ابن ماجه (۳). يظهر من تعريف كل من الدارين أن الممول في تمييز الدار هو وجود السلطة وسريان الأحكام . فإذا كانت إسلامية كانت الدار دار إسلام ، وإذا كانت غير إسلامية كانت الدار دار حرب قال محمد بن الحسن : و المعتبر في حكم الدار هو السلطان والمنعة في ظهور الحكم ، فإن كان الحكم حكم الموادعين فيظهورهم على الأخرى كانت الدار دار موادعة ، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر في الدار الأخرى فليس لواحد من حكم الموادعة ، (4) . . أهل الدارين ومن هنا قال الفقهاء : لا يتحقق اختلاف الفارين بالنسبة الميراث ونحوه إلا بتوافر شروط ثلاثة : هي اختلاف المتعة أي المسكر ، واختلاف وانقطاع المصمة فيا بينها حتى يستحل كل قتال الآخر 1) الخراج لاني يوسف : ص ١٤٤ ، السياسة الشرعية للاستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف : ص ۹۷ ۲) المحلى : ۲ می ۳۰۳ . وانظر المبسوط للسرخي 4) راجع نيل الأوطار : ٨ من ٠٢٥ 4) شرح السير الكبير : ٤ ص ٠١٠٠٨ وبهذا المنطق نفسه قال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد بصدد تغير وصف الدار نظراً لأن الحرب بين المسلمين وغيرهم في حال مد وجزر ، قالا : نصير دار الإسلام دار حرب بإجراء أحكام الشرك فيها فقط لأن ظهور الاسلام بظهور أحكامه. فإذا زالت منها هذه الاحكام لم تبق دار إسلام ، ويرى أبو حنيفة أن دار الإسلام لا تصير دار حرب إلا بشروط ثلاثة : أحدها : ظهور أحكام الكفر ونفاذه فيها الثاني: أن تكون متاخمة لدار الكفر والحرب. الثالث : ألا يبني فيها مسلم ولا ذي آمنا بأمان المسلمين الذي كان يتمتع به ، أي بالأمان الإسلامي الأول الذي مكن رعية المسلمين من الإقامة فيها. الذميين . فقد اعتبر أبو حنيفة أن أساس اختلاف الدار هو وجود الأمان بالنسبة للمقيمين فيها، فإذا كان الأمن فيها المسلمين على الإطلاق في دار إسلام وإذا لم يأمنوا فيها في دار حرب. ولا يزول الأمن بالنسبة المسلم إلا بالأمور الثلاثة المذكورة (1) وانفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها . وإنما المقصود هو وجود الأمن والسلام ، أو عدم وجوده ، وهو معنى تقسيم الدنيا إلى دارين وهو الأقرب إلى معنى الإسلام، (۱) راجع شرح السير الكبير : ٤ من ٣٠٢ ، فتاوى الولوالجي : ۲ ق ۲۸۲ ب ، البدائع : ٧ – ١٣٠ – ١٣١ وشرح قاضي خان على الزيادات : في 1 من باب السير بالفتاوى المانية : ٣ من ٠٨٤ ، المحيط : ۲ ق ۲۰۰ ب ، فرح ابن الساعاتي على مجمع البحرين : ٢ من باب السير، قرر الحكام : ۱ ص ۲۹۰ ، الفتاوى الهندية : ٢ من ۲۳۲ – حاشية ابن ما بدين : ٣ من ٢٥٠، طوالع الأنوار المستمي : ٨ ورقة ٦٢ شرح الدر المختار مخطوط بمكتبة الأزهر الإفصاح لابن هيرة: من ٢٤٨ ، رحمة الامة بهاملي الميزان الشمراني : ٢ ص ۱۲۹ - ويوافق الاصل في فكرة الحروب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداء ؛