يُعد الكاتب النرويجي يون فوسه الفائز بجائزة نوبل للعام الحالي 2023م، وقد أشارت حيثيات منحه الجائزة إلى ما تميز به من أسلوب نثري صاغ به المسكوت عنه. هذا الأسلوب النثري هو ما يفضل فوسه أن يُصنف تحته، كما ذكر في مقابلة له خُيِّر فيها بين عدة ألقاب تجمع نتاجه الأدبي، نال عالمنا المعاصر من صفات السرعة وسماتها كل أوجهها وطباعها، فأصبحت أجياله تتخطى التفاصيل للوصول إلى المختصر المفيد، لتحصل على ما سَرُعَ إعداده واستهلاكه. وقد حاولت الكتابة كبح جماح هذه النزعة إلى التسرّع بنمط يلفت انتباه قارئها إلى دقائق اللحظة البشرية في واقعها اليومي. يُسمى هذا النمط من الكتابة “النثر البطيء” لما يحدثه من إيقاع متأنٍ، يصف الكاتب الأمريكي بريان دولي (1956م – 2017م) النثر البطيء بأنه حركة تصحيحية للإيقاع السريع لحياة تشتت فيها الانتباه، فيقول: “النثر البطيء طريقة للكتابة تدعو القارئ إلى الإبطاء وتذوق اللغة والاهتمام بالتفاصيل”. ثم يمضي ليبين أهمية هذا النمط من الكتابة للقارئ والكاتب، وتعمق مرامي أعماله، وفي الوقت ذاته تثري تجربة القارئ، وتعزز شعوره بالحياة. وقبل أن يُعرف هذا النمط بهذا المسمى، تميّزت بعض كتابات أدباء كبار بسماته، ونسج روابط تواصل شعوري عميق مع القراء. يُرجع فوسه وسم نتاجه بهذا النمط إلى تحوّل متعمد قام به في كتاباته، وأراد به التمييز بين أسلوبه في الكتابة المسرحية، التي أراد أن يفرد فيها لكل لحظة ما تستحقه من مدى زمني تتدفق خلاله اللغة في سكينة وروية. فالكتابة المسرحية لا تسمح بهذا التباطؤ في معايشة اللحظة. فقد جمعت بين النثر البطيء، وأسلوب كتابة تيار الوعي الذي يغوص في العالم الداخلي لشخوص رواياته. فقد غاص بأسلوب كتابته في لب معاناة الإنسان المعاصر. وهي موضوعات تُذّكر بحداثة موضوعات مسرحيات مواطنه النرويجي هنريك إبسن، في رواية “ثلاثية” (2014م) صاغ فوسه ثلاث أقاصيص متصلة (سُهاد، فقريتهما الصغيرة من مجتمع الصيادين لم توفر لهما ولمولودهما القادم أبسط مقومات الحياة. ورغم فشل تلك الرحلة بنهاية الرواية، بل من زلات وقرارات خاطئة تودي بحياة “أسلا”، فيترك “أليدا” مجبرة على الرضوخ للأمر، رغم المصاعب والآلام التي مرّت بها. بلا مأوى وبلا نوم، سردًا بطيئًا شاعريًا لا ينبئ فقط بما يحدث، بل يبني أجواء المكان وإحساس الزمان لرحلة بطلي القصة ليعايش القارئ تجربتهما، وليرتبط بهما ويتعاطف معهما، تنتج هذه الأجواء عن سرد مفصل لكل لحظة معيشة وتكرار قد يبدو للبعض مملًا. ويعيد الراوي تكرار تفاصيله: “ثم يتوقفان وينظر أسلا إلى أليدا وهو لا يعرف ماذا يقول لها كي يواسيها، لأن كل واحد منهما كان يواسي الآخر بالفعل ولمرات عديدة وذلك بتبادل الحديث عن الطفل القادم: أبنت أم ولد؟ ذلك ما كانا يتحدثان عنه. وكانت أليدا ترى أن التعامل مع البنات أسهل، أمَّا هو فكان يرى العكس: التعامل مع الأولاد أسهل. فهما يشعران بالسعادة والامتنان لهذا الطفل، وقريبًا سيكونان أبًا وأمًّا. فهما يواسيان نفسيهما بالتفكير في الطفل الذي سيُولد عما قريب”. يجبر السرد هنا القارئ على الدوران معه في زمان الحدث ومكانه لإطالة زمن معايشة اللحظة التي تمر بها الشخصيات وتعايشها بين المعاناة والانتظار، ولا أدل على ذلك من تكرار “المواساة”، وهكذا تطول اللحظة على الشخصيات، وقد لا يروق مثل هذا النمط من الكتابة لبعض القرّاء بما يضعه من تحديات أسلوبية وتمهل لا يتوافق مع النمط السريع لحياته. تفسير التكرار وغياب علامات الترقيم تأخذ الحوارات في الرواية إيقاعًا متباطئًا مع تكرار قد يراه البعض لا داعي له، تتكرر كلمة “قارب” في الحوار التالي الذي يقع في نقطة مفصلية يبحث فيها بطلا القصة عن وسيلة للانتقال إلى مكان جديد أملًا في بدء حياة جديدة. “عندما سألته أليدا كيف سيصل إلى بيورجفين، قال أسلا إن عليهما إيجاد قارب يبحران به إلى هناك  قالت أليدا: نجد قاربًا  قال أسلا: نعم  قالت أليدا: أي قارب  قال أسلا: هناك قارب يرسو أمام كوخ الصيد ثم رأت أسلا ينهض ويخرج وتستلقي ليدا على السرير هناك في الغرفة العلوية ثم تتمدد وتغلق عينيها وهي متعبة جدًّا ومتعبة جدًّا”. تتكرر كلمة “القارب” خمس مرات في نص بلا علامات ترقيم تحده، وكأن دور الحوار هو إبراز الوجود الملح للقارب في هذه اللحظة من حياتهما. خاصة علامات الترقيم. ومع هذا، وهو أسلوب غير معتاد في الكتابة باللغة الإنجليزية. إطالة أمد اللحظة تلك اللحظة قد لا تستغرق وقتًا، لكن فوسه يطيل أمد اللحظة حتى نستشعرها وندرك ثقلها في تكرار كلمة “ينامان” أربع مرات متتالية، “يستلقي أسلا وأليدا على الدكة التي في مطبخ بيت صغير هناك في شارع أنستا في بيورجفين، وينامان وينامان، وينامان وينامان ويستيقظ أسلا ويفتح عينيه وينظر إلى الغرفة. فأين هو، وهو يرى أليدا راقدة هناك إلى جواره، ثم يرقد هناك بالقرب من أليدا ويسمع الموقد طقطق ويدمدم ويسمع هَزِيم المطر في الشارع وعلى سطح البيت ويشعر بالجوع…”.