بينما تظل سلطة الهجوم في أيدي خصوم هذه الطبقات. من أجل هذا نرى أننا إذا أوجدنا انشقاقًا بين الطبقات العاملة فإننا بذلك نربكها. وإن مهاجمة الديمقراطية الاشتراكية بنفس الأسلوب الذي اتبعه الشيوعيون معناه إضعاف ثقة العمال في الاشتراكية دون التمكن من تحويل ولائهم إلى الشيوعية (كما دلت الأحداث). ولم يكن هناك غير طريق واحد يؤدي إلى الوحدة، وفي الوقت نفسه يصبح الشيوعيون في موقف يتيح لهم — في خضم الأزمة — أن يضموا الجماهير إلى صفوفهم، غير أن السياسة التي ساروا عليها قضت على أي احتمال باتخاذ إجراء ما، وحين أشار المؤتمر الشيوعي الدولي على أحزابه التابعة له في السابع عشر من شهر مارس عام ٣٣ بأن تقترح هذه الأحزاب على الديمقراطيين الاشتراكيين القيام بإجراء مشترك ضد الفاشستية، جاء هذا الاقتراح بعد فوات الأوان بأربعة عشر عامًا. ذلك لأن قوة الطبقات العاملة تكمن في قواها المحشودة. ومما هو معروف أنه لو كانت الدعوة إلى القيام بإضراب عام ١٩٣٢م احتجاجًا على فون بابين قد نفذت بعزم وتصميم لأدت إلى خلعه وإلى القضاء على الهتلرية تبعًا لذلك. غير أن الدعوة إلى الإضراب العام كانت صادرة عن الشيوعيين. وأنى لهم أن يحيدوا عن هذا الرأي في الوقت الذي صرح فيه الشيوعيون أنفسهم بقولهم: إن هناك اختلافات جوهرية لا يمكن التغلب عليها «بين زعامة هذا الحزب وذاك»، فإن الطبقات العاملة لا تستطيع أن تحصل على السلطة إلا إذا احتفظت بتماسك هيئاتها. والحل الوحيد — إذن — لضمان وحدة الإجراءات التي تقدم عليها الطبقة العاملة يتمثل في الدفاع عن هيئاتها مهما كان الثمن والاستفادة من وطأة الأحداث؛ وأي منهج يخالف هذا المنهج سيكون بمثابة «تلاعب على الثورة»، وفاتتها اللحظة السيكلوجية المناسبة للقيام بإجراء ما. وفي اللحظة التي تصبح فيها أحوج ما تكون إلى القوة تفقد هذه القوة. غير أن الطبقة العاملة في النمسا كانت متحدة على الأقل، ولكن حين يقضي الصراع الداخلي على الثقة بالنفس، فهناك تلك الحقيقة الاقتصادية الحيوية التي تشير إلى تعذر استغلال طاقات الإنتاج استغلالًا كاملًا في ظل العلاقات الطبقية القائمة في مجتمعنا الحديث. وعلى كل حال فقد دل هذا في الماضي دائمًا على احتمال حدوث تغير جوهري. لقد كنا نعتقد أن المجتمع الذي يقوم على أساس التملك قد يكسب من الثروات ما يتيح ظهور مبدأ توزيع مُرضٍ. وسعينا — على ضوء ظروفه — نحو التخلي عن مطالب العدالة عن طريق سياسة تقديم امتيازات للجموع. ومعنى هذا أنه يتحتم على ذلك المجتمع أن يتيح لهم الأسباب التي تجعلهم يؤمنون بأن في استطاعتهم أن يحققوا الأمان ويحققوا الأمل. وحين يتسع نطاق النظام الذي يقوم على الامتيازات كان هذا بمثابة مغامرة يحتمل وقوعها. بحيث صارت دينًا بالنسبة لهم، وحينئذ يتجمع الذين ينعمون بالامتيازات حول الذين يعدون — عن طريق اتخاذ إجراءات عنيفة — باستعادة سلطان الدولة التقليدي. أعتقد أننا نواجه هذا الموقف في الوقت الحالي. ومن أجل الاحتفاظ بهذا النظام جندت له ديانات الدولة وقوانينها، وحين تميز المجتمع القائم على أساس التملك بسياسة التوسع أصبح من الممكن إسكات هؤلاء بالامتيازات. ولكي تحافظ على حقوقها من غائلة الهجوم نضطر إلى مهاجمة أسس النظام الذي كان يحقق الامتيازات في الماضي. وفي مقدورهم أن يضربوا على وتر الخوف من المجهول ومن الجديد. وحين يرون جمود الجماهير وبلادتهم ينتهون إلى أن التذمر الذي يلمسونه إنما يرجع إلى رجال أشرار، وهؤلاء يمكن القضاء عليهم وتوجيه هجوم عنيف ضدهم في اللحظة المناسبة. وإن الأمر لا يتطلب سوى القضاء على هذا أو ذاك. بهذا حدث الملك لويس السادس عشر نفسه في الأيام الأخيرة للعهد القديم، إن الذي يدعو إلى الانقلاب لا يؤثر على الجموع إلا إذا كانت هذه الجموع تحس إحساسًا عميقًا بالمظالم التي يطالب هذا الداعية بالتخلص منها. والمظالم لا تعبر عن نفسها عن طريق العنف إلا إذا جاءت عن طريق المعاناة الجماعية. وتشير الدلائل إلى أنه ليس من المحتمل أن نجعل المجتمع الرأسمالي يتقبل المبادئ التي يتطلبها ظهور الاشتراكية؛ إذ إننا بهذا نطالب الرأسماليين بأن يرضوا لأنفسهم بالتدمير. وهم يعرفون حيدًا كيف يضعون هذا الحكم بمنتهى السهولة. هذا هو المعنى الذي يكمن وراءه استحواذهم على سلطة الدولة، صدر قانون يقضي بأن التفوه بأية كلمة تساعد العدو أو تدخل عليه الطمأنينة يعتبر جريمة. والقدرة على التحكم في الأنباء لها أثر لا تتيسر المبالغة في وصفه. والسلاح الجديد — سلاح الإذاعة — وهي إشارتهم إلى حد كبير أيضًا، وينطبق هذا القول على عصرنا الحديث أكثر مما كان ينطبق على الثلاثمائة عام الماضية؛ من هذا يصح لي أن أنتهي إلى القول بأن الدولة التي تسيطر فيها الطبقة على سلطان الدولة لن تفرط في هذه السيطرة إذا ما جعلها هذا التفريط تتنازل عن الامتيازات التي تتمتع بها. إنها ستقوم بالإصلاح — حين يتحتم عليها ذلك — على شريطة ألا يعني هذا الإصلاح القضاء على ما لم تره ضروريًّا لوجودها. إنها لن تقدم على الإصلاح إلا إذا أمنت بأن الامتيازات التي ستتنازل عنها لن تورطها في تضحيات جوهرية. وما زال التاريخ يُرينا كيف أنها ستحارب على الدوام، فلا شك أن الذين يستحوذون على السلطة الاقتصادية سيعمدون إلى خنق النظام الديمقراطي إذا ما تدخل هذا النظام في سياسته، ومعنى هذا — بمرور الوقت — الحرب. غير أن الحرب لا تؤدي إلى ظهور الديمقراطية بكل تأكيد، إن الحرب لا تؤدي إلى الديمقراطية، وتكون النتيجة أن يربطوا خسارتهم بالنظام الديمقراطي، كما أن الحرب لا تؤدي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا. إن الظروف العلمية التي تعمل الحكومة العصرية في ظلها تجعل من الممكن أيضًا أن تكون نتيجة الحرب عودًا إلى البربرية، كما أنه من الممكن أن يكون من نتيجتها انتصار الطبقة العاملة. وأن تقيم حكومة مدنية على وجه السرعة. والذي يستعرض تاريخ الثورة الروسية لا يستطيع أن ينكر أن نجاحها في تكوين دكتاتورية بروليتارية يرجع قبل كل شيء إلى عاملين؛ ما معنى هذا كله إذن؟ يخيل إلى أن التحليل الذي أوردناه يؤدي إلى القول بأن السياسة الدولة في العصر الحديث قلما تؤدي إلى ظهور ثورة ناجحة. وما لم يكن هناك موقف تتيح فيه الأحداث العارضة فرصة المبادرة بالإقدام على إجراء ما. وليس من المحتمل أنها ستقدر حين تواجه التحدي على الاحتفاظ بسلطانها عن طريق الاعتماد على السياسة الكلاسيكية للديمقراطية. وعلى أية حال سيكون من العسير — بمقياس السرعة التي يتحقق بها نجاحه داخل إطار نظامه — أن يحول بين خصومه وبين أن يوجهوا الضربة الأولى. والواقع أنهم يقنعون أنفسهم دائمًا بإخلاص بأن لهم الحق في اتخاذ إجراءات حاسمة تكفل الإبقاء على هذا النظام. ونظرًا لأن الملكية في المجتمع الرأسمالي تستحوذ على سلطان الدولة، ولقد شعروا بهذا بصفة عامة حينما كانت هناك إصلاحات تدريجية محدودة المدى، وقلما شعروا بهذا حين تؤثر التغيرات المقترحة في نفس الأساس الذي يقوم عليه كيان العلاقات الطبقية. إلى أن يتعودوا على النظام الاجتماعي الجديد، غير أن هذا النوع من التعهد لا يسهل الوعد به بإخلاص، فمعنى ذلك تعطيل أي إصلاح لحالة العمال في أية صناعة تستولي عليها الدولة، وهناك جميع الأدلة الممكنة التي تعارض ذلك النوع من المصادرة وهذا النوع يجعل الطبقة المالكة تتصارع. ويجدر بنا أن أن ندفع ثمنًا لا بأس به حتى يتقبلوا النظام الاجتماعي الجديد عن طيب خاطر، وهذا سيؤجل فقط مشكلة دفع الثمن دون أن يوجَد أساس لحل هذه المشكلة حلًّا معقولًا. لقد اعتدنا في جميع أنحاء العالم على بربرية جديدة، وجعل اليهود في ألمانيا جنسًا مستعبدًا وما تؤدي إليه الخلافات السياسية من فرض ألوان التعذيب التي لا يستطيع رجل حساس أن يتصورها دون أن يشعر بالهلع وارتكاب هذه الأفعال بكل بساطة، وحين تسلح الآراء نفسها استعدادًا للصراع يتعذَّر وصول صوت العقل إلى الأسماع. ويتم القضاء على الإجراءات الخاصة بالحكومات التي تحكم عن رضا، ولا نعني هذا بالضرورة أن امتلاك الأسلحة معناه قضية أحسن. لقد كان هذا هو المزاج الذي ظهر كلما اقترب نظام اجتماعي من شفا الهاوية. وهكذا حاربت القيصرية دعوة الإصلاح السياسي والاجتماعي في روسيا قبل الثورة. كل هذا يفسر لنا لماذا كانت سلطة الدولة — في المجتمع الذي لا تسوده المساواة — وسيلة لقمع المحرومين من الامتيازات التي تحميها هذه الدولة. كما أنه يفسر لنا لماذا يتحتم على المحرومين أن يسعوا نحو الحصول على هذه السلطة؛ ولقد قيل: إنه أينما وجد مجتمع مقسم إلى طبقات اقتصادية تختلف كل منها عن الأخرى من حيث الملكية — داخل في نطاق الوظيفة الإنتاجية — صارت الدولة حاجزًا يحول دون القضاء على الطبقات. من أجل هذا تجد أن منطق الدولة — في الحضارة الرأسمالية — يجعل من هذا سلاحًا يُستخدم ضد الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وحينما كانت هذه المدينة ثرية أو توسعية أدت قدرتها على إتاحة الامتيازات للجموع إلى التخفيف من تصارع المصالح التي تقوم هذه المدينة على أساسها. ولكن حينما تعرضت المدينة للأزمة — كما يحدث في أيامنا هذه — صار الصراع قاسيًا وحاسمًا، إنهم ليسوا بأقل من خصومهم إيمانًا بأنهم يعملون للصالح العام. لأن البيئة والتجربة التي تفسرها الطبقات في المجتمع تؤدي إلى تفسيرات لما يتضمنه الصالح العام. يضطر أفراد هذا المجتمع إلى اختيار أحد أمرين: إما الاستسلام أو الحرب الاجتماعية. ولقد دل التاريخ — حتى الوقت الحالي — على أن الطبقة التي تسعى إلى إعادة تحديد موقفها في الدولة بطريقة أساسية تضطر دائمًا إلى تحقيق أهدافها عن طريق الثورة العنيفة. ولقد أشرت على هذه الصفحات إلى أن الحقائق التي نواجهها في الوقت الحالي لا تضمن لنا أن تجربتنا ستختلف عن التجربة التي مرت بها العصور السالفة. وموجز القول أن الشكل الديمقراطي للدولة في المجتمع الذي يقوم على أساس التملك، من أجل هذا نرى أن أية فلسفة سياسية لا تستطيع أن تتصرف بنجاح مع مفهوم سلطان الدولة الذي يُفسر على أنه جهاز لرفاهية المجتمع الذي تتحكم فيه هذه السلطة. وطالما عبرت الدولة عن مجتمع منقسم إلى طبقات اقتصادية صارت دائمًا خادمًا للطبقة التي تملك أو التي تتحكم في ملكيته وسائل الإنتاج. والمنطق الذي يكمن وراء هذا الوضع هو أنه ليست هناك دولة تستطيع أن تحقق رفاهية مجتمع بأكمله ما لم يشترك المجتمع بأكمله في امتلاك وسائل الإنتاج. ومن الممكن أن يكون هذا المجتمع مجتمعًا يتمتع بالمساواة، بمعنى أن الاستجابة للاحتياجات لا تتم على أساس القدرة على الحصول (ومرجعها حقيقة الملكية العادية)، وإنما على أساس خدمات تؤديها وظيفة يتم قيامها بميزان قيمتها الاجتماعية.