ليس من الصعب على من يقرأ قصص غسان كنفاني أن يلمح صورة التدرج الواعي المتعامد على واقعية صلبة محددة المخبر والمظهر، كأنما كان دائماً يحاول الاقتراب من حدود أهدافه التي يضعها لنفسه في أطوار مبكرة، كأن تكون القصة واقعية مئة بالمئة وفي نفس الوقت تمنح شعوراً هو غير الواقعية المتجسدة. إلى غير ذلك من فقدان الانضباط لحركة النفس الداخلية. تدرج أيضاً في طريقة الإفادة من الوسائل الفنية التي كان يظنها كفيلة بتحقيق تلك الغاية فنجده مرةً يعتمد رسم المفارقات والمتناظرات ومرة نجده يلجأ إلى ايثار البساطة الموحية في طبيعة الحوار ومرة ثالثة يستغل عنصر " الامكان" الضروري ومرة يجمع بين هذه الوسائل جميعاً غير انه من البداية إلى النهاية ظلّ مصراً على أنّ خير ما يبلغه هدفه هو طبيعة الشخصيات التي لا مناصَ لها من العيش ضم غطار واقعيته المبتغاة أعني بأننا نراها واقعية واضحة بسيطة كأنها دون تعمل لون من ألوان الحكاية من غير أن تتذرع للوصول إلينا بذرائع من فلسفة فكرية أو من إثارة عاطفية أو من تقنية مركبة أو غير ذلكم من وسائل وعناصر. وفي مقدمة تلك الأمور قيامُ القصة على الرمز. إن قيام القصة على مبنيين ظاهري وداخلي يمنح القصة عمقاً خاصاً ويجعلها مليئة بالإيحاءات قابلة للفروض والاحتمالات وبقوة الرمز وتجدد ضروب التفسير تحتفظ القصة بالديمومة وتتجدد فيها الطاقات رغم تغير الظروف وإنما حاول استغلال المزاوجة بين بناءين ظاهري وباطني , أي ان الأحداث و الشخصيات ترتبط في زمن واحد. وبتلاعب من القاص في إبراز معنى الزمن بالنسبة لكل منها , وهذا هو الذي حدا به إلى ان يجعل حضور كل شخصية قائما على التداعي وكأن أحاديثها النفسية وأفعالها متداخلة لارتباطها بعنصر الزمن. فكلتاهما تصور محاولة الفلسطيني للهرب من واقعه وسعيه نحو الاستقرار وتشبثه بالحياة على نحو فردي. ولكن الإرادة المسلوبة في الأولى أخذت تتضح وتتطور نحو التشكل في الثانية حتى الصمت نفسه ظن غسان بأنه يدق له صوت . كل شيء يتهيأ للولادة وذلك لأن الموت المبكر الذي أصاب سالم الفدائي قد حرك شرارة الانبعاث في كل نفس . إلى أمه,