رجعتُ من الجَنازة بعد أن غبَّرت قدميَّ ساعةً في الطريق التي تُرابها ترابٌ وأشعة، هي زوجة صديق طَحطَحَتها الأمراضُ ففرَّقتها بين علل الموت، وكان قلبُها يحييها فأخذ يهلكها، حتى إذا دنا أن يقضيَ عليها - رحمها الله -، ومن ذا الذي مات له مريضٌ بالقلب ولم يره من قلبه في علَّته كالعصفور التي تَهتَلك تحت عيني ثعبانٍ, أما قلبُها ففي الثمانين أو فوق ذلك، وأكملُ النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تَحِلٌّ مشاكلَ وتخلق مشاكل، ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان تُقِرٌّ في كلِّ شيء معناه السماوي، وتأخذ ما تُعطى من يد خالقها رحمةً معروفة أو رحمةً مجهولة، ومشيتُ من البيت الذي ألبسته الميتةُ معنى القبر إلى القبر الذي ألبسَ الميتةَ معنى البيت، وأنا منذ مشيتُ في جنازة أمي - رحمها الله - لا أسير في هذا الطريق مع الأحياء، فأتبعُ من الميتِ صديقاً ليس رجلاً ولا امرأة، وتصبحُ للأرضِ في رأيي جغرافيةٌ أخرى، عَمِيَ الناسُ عنها لشدةِ وضوحها، كالألوهية خفيت من شدةِ ما ظهرت. يقولون: إن ثلاثة أرباع الأرض يغمرها البحر، أما أنا فأرى في تلك الساعة أن ثلاثة أرباع الأرض لا يغمرها البحر الذي وصفوا، هو ذلك البحر الترابيٌّ العظيمُ المسمَّى (المقبرة). هي ماذا -ويحكم- أيها المغرورون، أفلا ترون هذه الصلةَ الدائمةَ بين بطنِ الأم وبطن الأرض؟ لعمري كيف تجعلُ هذه الحياةُ للناس قلوباً مع قلوبهم فيحسٌّ المرءُ بقلب، ويعرف معرَّةَ الإثم فيأثم، ما في ذلك شك، ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عملَ من قد فرَّ من ربِّه. هبَّت الريح في السَّحَرِ على روضةٍ, غناءَ فطابت لها، فعقدت عقدتَها أن تتخذ لها بيتاً في ذلك المكان الطيب لتقيمَ فيه، وتحلُم بالقرار في البيت وهي لا تملك بطبيعتها أن تقف. يا لها من حكمة سامية، لا يسكنها من المعنى إلا أسخف ما في الحُمق. هَمَدَ الحيٌّ وانطفأت عيناه، من عمله إما مُبصِرةٍ, أو كالعمياء، أقيمَ بليل وما أعجب أن يجلس أهلُ المأتم في المأتم ليضحكوا، ويلعبوا. إن هذا الحاضرَ الذي يمر فيكونُ ماضيَكم في الدنيا هو بعينه الذي يكون مستقبلَكم في الآخرة، لا تزيدون فيه ولا تنقصون، من العظماء إلى الفقراء، ولكنها تنقلب في الآخرة، فتبدأ من الفقراء إلى العظماء، وأنتم ترسمونها بخطوطِ المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة، ومن يدري؟ لعلنا ونحن نُلحِدُ للموتى، وأننا مدفونون في القبر الذي يسمونه =الكرة الأرضية+! وهل الكرةُ الأرضيةُ من اللانهاية إلا حفرةٌ برجلِ نملة لتُدفَن فيها نملة. وله خمسةُ أطفالٍ, لو أنهم هم الذين انتُزِعوا من أمهم لترك كلٌّ واحد على قلبها مثل المِكوَاةِ المحميِّ عليها في النار إلى أن تحمَرَّ، ولكنَّ أمهم هي التي نُزعت منهم، فكان بقاؤهم في الحياة تخفيفاً لسكرةِ الموت عليها، وقالت: إنها تسمع أحلامَهم، وكانوا هم عقلَها في ساعة الموت! تبارك الذي جعل في قلب الأمِّ دنيا من خلقِهِ هو، وكأنه ثمانيةُ أرطالٍ, جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوبٍ, فتناول منديلَه، ومسحَها بيده الصغيرة، ولكنَّ روحَه اليتيمةَ تأبى إلا أن ترسمَ بهذه الدموعِ على وجههِ معانيَ يُتمها. وظهر الانكسار في وجهه يُعبر ببلاغةٍ, أنه قد أحسَّ حقيقةَ ضعفِه وطفولتِه بإزاء المصيبة التي نزلت به، وجلسَ مستسلماً تترجم هيئتُه معانيَ هذه الكلمة: (رفقاً بي). ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء، ثم يُرخي عينيه في إغماضةٍ, كأنما يرجو أن يرى أمَّه في طَوِيَّتِه! ولا يُصدق أنها ماتت، ثم يعود إلى وجهه الانكسار والاستسلام، ويتململ في مجلسه، أحسَّ - ولا ريب - أنه قد ضاع في الوجود لأن الوجود كان أمَّه. ولمس خشونةَ الدنيا منذ الساعة، في أحد، وليس لأحد أُمَّان. ولبِسَتهُ المسكنةُ لأن له شيئاً عزيزاً أصبح وراء الزمان فلن يصلَ إليه. ولبسته المسكنة لأنه صار وحده في المكان كما هو وحده في الزمان. ثم تَغَرغَرَت عيناه، فيُخرجُ منديلَه، ولكن روحَه اليتيمةَ تأبى إلا أن ترسمَ بهذه الدموعِ على وجهِه معانيَ يُتمِها. ونهضَ الصغيرُ ولم ينطق بذاتِ شَفَةٍ, نهضَ يحملُ رجولتَه التي بدأت منذ الساعة. انتهت -أيها الطفل المسكين- أيامُك من الأم،