توقف بنا الفصل السابق عند أثر الحُلم على تحولات البناء القصصي عند نجيب محفوظ، ممثلًا في العنوان بوصفه عتبةً من عتبات النص القصصي المحفوظي، بالإضافة إلى ما أحدثه الحلم في تشكيل النوع القصصي على مستوى "سرد الأحلام" و"الحلم السردي"، وكذلك ما دفع به الحلم من تحولات في "الرؤية القصصية" بأنماطها ومستوياتها، وعلى الدراسة بعد ذلك أن تُسائل النتاج القصصي المحفوظي عن أثر الحلم في تشكيل عناصر البنية القصصية من شخصيات وزمان ومكان، لتصل بعد ذلك إلى أثر الحلم على المضمون القصصي محاولة- وفق آليات تظهرها الدراسة في حينها- تأويل الحلم المحفوظي، وسيختص هذا الفصل ببيان ما تركه الحلم المحفوظي على الشَّخصيَّة القصصية من تحولات داخل النص القصصي سواء انتمى النص إلى "الحلم السردي" أو "سرد الأحلام". وقد زادت أهميتها في الأعمال السردية بعد تصاعد قيمة الفرد داخل المجتمع، وقد اكتسبت الشَّخصيَّة هذه الأهمية من كونها العنصر الحيوي الذي ينهض بالأفعال التي يترابط بها الحكي وبها يكتسب تكامله( )، ثمة تصورات عديدة لدراسة الشَّخصيَّة في الأعمال القصصية، وفي هذا الإطار تُشكل الشَّخصيَّة «علامة أيديولوجية لا عقلانية يعاد إنتاجها على المستوى الأدبي من خلال تصوير النظم التسلطية السائدة في المجتمع، ولا تتحقق فعاليتها إلا من خلال قراءتها داخل نسق عن طريق جملة من الروابط الشكلية والتقنيات اللغوية، فإنها تظهر في نصوصها بوصفها علامة على فئة أو طبقة معينة من الناس، إن ثراء "الأحلام المحفوظية" وغناها بالنماذج مبهر بالفعل، عبر عين محفوظ الفاحصة الممتلكة لتشريح المتأمل، لتنقلنا من رؤيا المؤمن إلى المفكر الحكيم الناقد لأوضاع البلاد وساستها، تبدو حينًا أحلامًا متنوعة الطهر وعفاف الخوف من الله، وحينًا آخر أحلام الحالة الأخرى للبشرية في اللذة، وأحيانًا أخرى أحلام المنطقة الرمادية حيث سياسة الغموض، ولا عجب أن تكون الأحلام المحفوظية بهذا الثراء والتنوع في نماذج شخصياتها، ليستمر رصده لها حتى العصر الحديث بكل تحولاته الفكرية والسياسية( ). وأمام هذا التنوع الهائل في شخصيات الأحلام المحفوظية، فإن دراسة بعض نماذجها المقدمة في الحكي لتعرف أثر الحلم على تشكلها داخل النص ودلائل ذلك يصبح من الأهمية بمكان؛ فيما يكشف عنه في نصوص الأحلام المحفوظية، كما يكشف عن رؤية نجيب محفوظ للعالم من حوله، آية ذلك أن الشَّخصيَّة النموذج في الأحلام، شخصية «تتميز بطابعها العام، والمعاناة النفسية لهذه الطبقة في إهاب تلك الشَّخصيَّة»( )، لأنها تصبح موصولة في نموذجيتها بالملامح الأساسية داخل المجتمع، «فعندما تنبع حقيقة موضوعية اجتماعية ذات قيمة عالمية من الأعماق الأصلية لشخصية ما ينبثق لدينا أدبيًّا نموذج حقيقي»( )، وعلى هذا الأساس لا بد من قراءة هذه النماذج في ضوء التركيز على الملامح التاريخية والاجتماعية المحددة لنموذجيتها، إلا أنه يبقى له خصوصية تشكله داخل الحلم، الذي يختلف بطبيعة بنائه عن الأعمال السردية الأخرى على نحو ما سيتضح في تناول الدراسة لبعض نماذج الشخصيات في الأحلام المحفوظية تحتشد في الأحلام المحفوظية، وبخاصة في "سرد الأحلام" أعني: "أحلام فترة النقاهة" و"الأحلام الأخيرة"، وفي ثمانية أحلام من "الأحلام الأخيرة"، والنحاس باشا في "حلم 177"( )، وفي حلم 189( ) من "أحلام فترة النقاهة" وفي حلم 217( ) وحلم 248( ) من "الأحلام الأخيرة"، وجمال عبد الناصر في حلم 209( ) وتمثاله في "حلم 341"( ) من "الأحلام الأخيرة"، والرئيس السادات في حلم 6 من الأحلام التي نشرت بمناسبة عيد ميلاد محفوظ الخامس والتسعين( ). وفي حلم 180( ) من "أحلام فترة النقاهة"، وفي حلم "385"( ) من "الأحلام الأخيرة"، والأستاذ سعد الدين وهبة في حلم 159( )، والمرحوم الدكتور حسين فوزي في حلم 86( ) من "أحلام فترة النقاهة"، ومن يسميهم محفوظ الحرافيش أو أصدقاء العمر في حلم 29( )، وفي حلم 159( ) من "أحلام فترة النقاهة"، وفي حلم 342( ) من "الأحلام الأخيرة". ولا تهمل أحلام محفوظ رموز الفن والثقافة ككوكب الشرق أم كلثوم التي تحضر مع غيرها من أهل الفن في حلم 188( )، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي يظهر مع غيره من أهل الفن في حلم 188( )، ويظهران معًا في حلم 229( ) من "الأحلام الأخيرة"، والموسيقار الشيخ زكريا أحمد في حلم 53( )، ويظهر مع غيره من أهل الفن في حلم 188( ) من "أحلام فترة النقاهة"، ومع سيدة الغناء العربي أم كلثوم في حلم 358( ) من الأحلام الأخيرة، وسيد درويش في حلم 30( )، وفي حلم ومع غيره من أهل الفن في حلم 188( )، وسعاد حسني في حلم 208( )، وصديقه الممثل أحمد مظهر في حلم 214( ) من "الأحلام الأخيرة". كما يظهر في الأحلام المحفوظية كثير من الأصدقاء كصديق الشباب وشهيد الوطنية في حلم 76( )، ش) في حلم 72( )، أ) في حلم 73( )، وصديقه المرحوم "أ" في حلم 201( )، وصديقه "ح" في حلم 256( ) وغيرهما ممن يشير إليهم كذلك بالحرف الأول من الاسم في "الأحلام الأخيرة"، كما تحضر الأسرة إلى "الأحلام المحفوظية" ممثلة في الأم التي نراها في "حلم 30"( )، وفي "حلم 112"( ) وفي غيرها من "أحلام فترة النقاهة" وفي 22 حلمًا من "الأحلام الأخيرة"، وفي غيرها من "أحلام فترة النقاهة و"الأحلام الأخيرة"، وفي غيرهما من "أحلام فترة النقاهة" وفي 14 حلما من "الأحلام الأخيرة"، في حين تذكر باسم الحبيبة القديمة دون الاسم في "حلم 27"( )، من "أحلام فترة النقاهة" وفي غيرها من "الأحلام الأخيرة". ثمة مجموعة من المناهج التي حاولت رصد اسم العلم بالتعريف والتحليل والدرس والمناقشة والتفكيك والتركيب. ويمكن حصرها في المقاربة النحوية( )، والمقاربة البنيوية السيميائية( ). وفي ضوء ما قدمته هذه المقاربات مجتمعة يمكن مقاربة أسماء الأعلام والرموز المحتشدة في أحلام نجيب محفوظ، وما أصاب الشَّخصيَّة القصصية من تحول داخل هذه الأحلام. وفي رأي الباحثة أنَّه ليس أنسب من الأحلام، ومحفوظ واحدٌ من الذين شهدوا هذا التاريخ بأحداثه وتحولاته، وإذا كان ما ورد في الأحلام من أسماء الأعلام الشَّخصيَّة قد يعبر في الغالب عن شيء مشخص ومجسم ومحسوس ومتميز فيكتسب بذلك: التعيين، وهي وافية في الدلالة عليه وحده( ) فإن هذه الأسماء وتتبع مساراتها الواقعية لدى محفوظ الذي يمثل إبداعه «تكريسا لمقولة: حب الوطن من الإيمان»( ) يكشف عن دلالات ذات رؤى وأبعاد تحملها الأحلام بلغتها المكتنزة. ففي "حلم298" من "الأحلام الأخيرة" يستحضر محفوظ شخصية الزعيم الثائر "سعد زغلول" فيقول: «رأيتني أسير في الظلام وشبح يتحرك هنا وآخر هناك، إنَّ ورود اسم "سعد زغلول" في الحلم يدل على شخصية ذات أبعاد محددة ومعينة، يتوجه إليها الراوي الحالم بالشكر موهمًا إيانا بتعيينها، لكن الحلم لا يُفصِّل في هذه الأبعاد معتمدًا على معرفة المتلقي عن هذه الشَّخصيَّة؛ لذلك يتخير منها الحلم واحدة ويدفع بها إلى السرد، إنها صفة الزعامة للأمة التي تحمل بين طياتها توفير الحماية والذود عن كل من آمنوا بهذه الزعامة، وبهذه الصفة تُبعث الشَّخصيَّة داخل الحلم فتقوم بدورها المنتظر، فتختفي الأشباح وتعود الطمأنينة ويحل السلام، إن الحالم يريد هذه الشَّخصيَّة التي تقوم بواجبات الزعامة واقعًا ملموسًا، ولعل في ذلك إسقاط على واقع الحالم الذي لم يعد زعماؤه في صورة هذا الزعيم. كما يُحتمل أن يكون حضورُ شخصية "سعد زغلول" اعتمادًا على معرفة المتلقي بها، إشارةً إلى استحضار نمط الثائر الذي يستطيع بثورته أن يحقق الأمان لنفسه ولكل من حوله، وليس ذلك بعيدًا عن محفوظ الذي تقوم رسالة الأدب عنده فيما تقوم عليه على «تحريك الساكن وتحويل البشر عبر مساحات وعيهم في منطقة الحركة والفعل»( ). في ضوء المزاوجة بين التعيين والتحديد من جهة والدلالات ذات الرؤى والأبعاد لشخصيات الزعماء، تستحضر نصوص الأحلام المحفوظية باقي أسماء الزعماء، في "حلم 341" من "الأحلام الأخيرة" يقول محفوظ: «رأيتني عند قاعدة تمثال عالٍ للزعيم جمال عبد الناصر، ولا تخفى تيمة "التمثال" المشتركة بين هذا الحلم وحلم "سعد زغلول" السابق، إذ ليس حضورها في الحلم كيانًا قائمًا بإنسانيته ومحدوديته، بقدر ما إن هذا الحضور يأتي لدلالات ورؤى وأبعاد يريد نص الحلم الدفع بها، وهي صفة أراد الحالم، كما أراد في الحلم السابق، "حلم 177" من "أحلام فترة النقاهة" يقول محفوظ: «أقيم سرادق كبير للاحتفال بالحزب الجديد، وألقى خطابًا يشرح فيه مبادئ الحزب وفي مقدمتها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية، وآليات التنوير، وأخلص لها في أعماله، أو التعددية السياسية، فلا ديكتاتورية في توزيع الثروات، ولا ديمقراطية دون أن يكون هناك عدل اجتماعي وتنافس حر وتسامح ومحبة من أجل مستقبل حر لوطن حر. ويدفع نصه إلى ترسيخ تلك الدلالات، وهنا، ولكنه يمكن أن يحمل دلالات رمزيَّة أو كنائية أو مجازية إذا قاربناه في سياق نصي معين، في هذا السياق أيضًا يحضر رموز الثقافة والفن من أمثال "سعد الدين وهبة" و"الشيخ محرم" و"الشيخ مصطفى عبد الرزاق" و"الشيخ زكريا أحمد" و"كوكب الشرق أم كلثوم" وغيرهم من رموز الفن والثقافة، فيقول: «وجدتني في حفلة لأم كلثوم بصحبة الشيخ زكريا أحمد، وعند انتهاء الحفلة خرجت مع الشيخ زكريا نسير في شوارع القاهرة الفاطمية "وتميل عليه وتقول له ليه. فكوكب الشرق أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد شخصيتان لهما أبعادهما النفسية والذاتية التي يمكن تحقيقها، وإنما يحضران بوصفهما رمزًا من رموز الإيمان بالفن الذي يؤدي إلى الصفاء والتواضع، فالحفل والاستمتاع بالطرب انتهى بهما إلى أكل "طاجن كفتة وصينية بسبوسة"، ويتأكد هذا لدينا إذا علمنا أن هذا الدور المشار إليه في الحلم وتغنت به أم كلثوم، دور "إمتى الهوى ييجي سوا" أحد أعظم الأدوار التي غنتها أم كلثوم، لكنه يحملها بكثير من الأفكار والاتجاهات والرؤى والمشاعر والرواسب الثقافية»( ). والمزاوجة نفسها بين الأبعاد النفسية والذاتية من جهة، ففي "حلم 159" من "أحلام فترة النقاهة" يقول: «تلقى بعض الحرافيش دعوة من الأستاذ سعد الدين وهبة، فذهبنا إلى مقابلته، ودعانا إلى التوقيع عليه بإمضاءاتنا فاستجبنا بحماس، وعند فجر ذلك اليوم اخترق بيوتنا زوار الفجر وساقونا معصوبي الأعين إلى المجهول»( ). فشخصية سعد الدين وهبة شخصية واقعية ذات ملامح وأبعاد نفسية ترتد إلى الواقع بسمات معروفة ومشتركة بين المتلقي ونص الحلم، ويستثمر الحلم هذه السمات المعروفة لدى المتلقي للانتقال إلى البعد الرمزي، فيصبح سعد الدين وهبة رمزًا لكل مثقف حر يسعى إلى تغيير واقع مأزوم حوله مستعينًا بمن حوله ممن يؤمنون بأفكاره، وما قد يجد من عنت السلطة إذا فكر أو أراد تغيير الواقع ونقده. والواقع أن مثل هذا النموذج الذي يسعى إلى طموح محدد والخروج عن المألوف في مجتمع ساكن لا يتحرك في أعمال محفوظ- والأمر كذلك في أحلامه- يكون عقابه أشد بكثير من نوع الجريمة التي ارتكبها أو التمرد الذي سلكه( ). وإنما يتجاوز ذلك فيصل بالشَّخصيَّة إلى حد التجريد حين يطلق عليها اسم صديق قديم أو صديق العمر أو يسميها بأول حرف من حروف الاسم، ويعني هذا أنها تصبح غير مسماة باسمٍ محددٍ يخصصها، ولا شخوصيًّا، وكائناتٍ رمزيَّة وكنائيةٍ، ش) وسررت برؤياه سرورًا كبيرًا. لكنه أخذها بلهفة ومضى دون أن ينبس بكلمة إلى باب مفتوح فدخله وأغلقه» ( ). وفي "حلم 73" يقابل الحالم زميله المرحوم (ح. أ) ليخبرني بأن الوزير أرسل في طلبي. واستأذنا ودخلت»( ). ويبلغ فيها تجريد الشَّخصيَّة مداه بتحويلها إلى كيان غير محدد أو محدد عن طريق الحرف الذي لا يشي بتعيين ولا تعريف. أما الشاعر والفنانة فسارا في الشارع الطويل الخالي ونحن في الناحية المضادة والحزن يملأ جوانحنا»( ). يَشِي سياق الحلم السابق أن «ص» رمزٌ للشاعر صلاح جاهين، و«س» رمزٌ للفنانة سعاد حسني، وربما المقصود بالدراما الشعرية هنا فيلم «خلي بالك من زوزو» الذي كتبه جاهين لسعاد حسني وأخرجه حسن الإمام، وإنما يريد حضورهما حضورًا مجردًا عن التعيين فـ«ص» و«س» رمزان قد ينطبقان على كثير من الفنانين، تبقى أيضًا دون حمولات إنسانية تميزها عن باقي الشخصيات الأخرى، ويعني هذا أن الحلم يميل إلى تجريد مثل هذه الشخصيات بدل تعريفها بأوصافها وقيمها وأحداثها بشكلٍ مطنبٍ، ومقياس التراكب. إنَّ ما تقدَّم يكشف أنَّ الحُلمَ المحفوظيَّ استخدم أسماء الرموز والزعماء والأصدقاء والأسرة ووظف طاقتها الدلالية توظيفًا فنيًّا، وجرَّدها من التعيين، وصرفَها إلى أداء وظائفها ودلالاتها ورؤاها داخل النص الحلمي تارةً أخرى،