مرآة البحرين : الصراع في البحرين ليس خلافًا مذهبيًا سطحيًا كما يحاول البعض تصويره، بل هو في جوهره مواجهة بين مشروعين متضادين: مشروع مقاومة حيّ وفاعل يستلهم قيمه من ثقافة أهل البيت عليهم السلام، يستقي قيمه وثقافته من إرث بني أمية، حيث يعتمد القمع والتهديد كوسائل لفرض السيطرة. ترتكز العقيدة الشيعية على رفض الخضوع للحاكمٍ الظالم، إذ تُشترط العدالة في الحكم، بينما تميل بعض الاتجاهات الإسلامية إلى تغليب طاعة وليّ الأمر، بدعوى اتّقاءً الفتنة وحفاظًا على الاستقرار. لذا فإن الحاكم الظالم لا يرى في صوت الوعي سوى أنه خطر وجودي، لا يملك أمامه إلا أن يلاحقه بالتهم المفبركة، وسجنه تمهيدا لتصفيته. يخبرنا التاريخ أن نظام بني أميّة لم يكن يستند إلى المشروعية الأخلاقية أو العدالة، بل اعتمد على ضعف الوعي الديني والسياسي لدى عامة الناس، حيث كان السكان بعيدين عن جوهر الإسلام وتعاليمه الأصيلة. عمل الأمويون بذكاء على تشويش المفاهيم وتحريف الحقائق، ويكفي أن معاوية نفسه قال مهددًا أمير المؤمنين في صفّين: "أقاتله بمئة ألف لا يفرّقون بين الناقة والجمل"، في إشارة صريحة إلى اعتماده على جهل جنوده، وتوظيف هذا الجهل كوسيلة للسيطرة وقلب المفاهيم بما يخدم مشروعه، حيث كان الجيش أداة الحسم: قوة عسكرية شديدة القسوة تسحق كل حركة تحرّر أو تصحيح، وتؤمّن استمرار الحكم بالقهر لا بالرضا. هذا النموذج من السلطة - المعتمدة على تغييب الوعي والقمع العسكري - لم يُدفن في التاريخ، بل أعيد إنتاجه بوجوه جديدة، ومنها ما نراه في سياسة الدول المحاربة ومنها المعادية لمنهج أهل البيت عليهم السلام. على امتداد قرنين، تنوّعت أساليب الاستهداف الممنهج للشيعة على يد شيوخ آل خليفة، وصولًا إلى الملك الحالي، من فرض للضرائب ومصادرة الأملاك في بدايات الحكم، إلى الهجمات على القرى والتهجير القسري، ثم القمع العنيف للاحتجاجات في الثلاثينيات، وصولًا إلى سياسات الإقصاء السياسي والثقافي في القرن العشرين، وانتهاءً بالمجزرة الكبرى بعد ثورة 14 فبراير، وما تبعها من هدم للحسينيات والمساجد، وتضييق مستمر على كل مظهر من مظاهر الهوية الشيعية. لا يمكن عزله عن حاضر البحرين اليوم. ولعل من أبرز مظاهر هذا الاستهداف المتواصل، حملات التضييق التي يقودها وزير الداخلية منذ سنوات ضد مراسم عاشوراء، والتي تتكرّر سنويًا مع اقتراب شهر المحرّم. وحتى فرض قيود على المجالس الحسينية. هذه الإجراءات لا تعبّر عن "حساسية أمنية"، كما أنها ليست رد فعل سياسي، بل هي تعبير عن كراهية دفينة وحقد متجذّر تحمله العائلة الحاكمة تجاه الغالبية الشيعية، التي لا ترى فيها مجرد معارض سياسي، بل خطرًا وجوديًا على شرعيتها. ومن المؤسف أن هذا الحقد يتغذى على رواسب طائفية متوارثة، ويُترجم إلى سياسات قمعية ممنهجة، لا تفرّق بين طفل ورجل دين، بين شعيرة دينية وموقف سياسي منذ القدم رفع البحرينيون شعار "الموت لإسرائيل والموت لأمريكا"، ورددوا الشعارات في المساجد ومواكب العزاء باستمرار، بنبرة تحدي ونغمة حماسية؛ وكنا نرى الشعارات مكتوبة على جدران المنازل داخل القرى وعلى جدران المدارس منذ كنا أطفالا وحتى الآن. وفي هذا السياق يشير الدكتور السيد السّواد، عالم الأنثروبولوجيا المتخصص في دراسة الطقوس الشيعية، والذي عكف على دراسة المجتمع البحريني بشكل خاص، أن شعب البحرين يرى أن الشعائر الحسينية تُعدّ "أداءً جسديًا جماعيًا" يُجسّد رفض الظلم، حيث تتحوّل الأجساد المشاركة إلى أدوات تعبير رمزية تعبّر عن معاناة اجتماعية وسياسية. حيث يتقاطع البُعد الديني مع البُعد السياسي. ويُفسّر السّواد شعار "الحسين باقٍ وحيّ" بوصفه موقفًا أخلاقيًا وسياسيًا، يُجسّد بقاء الإمام الحسين كرمز دائم للعدالة والمقاومة، ويُستحضر في مواجهة أنظمة القمع، حيث تُعاد من خلاله كربلاء كمرآة للواقع المعاصر. يوسف الرومي ساهمت المواكب الحسينية في البحرين في بناء ثقافة ثورية، فجّرت الوعي السياسي في أجيال متعاقبة. طوّر الرواديد هذه الثقافة من خلال الألحان والأنغام الحماسية التي جذبت مختلف شرائح المجتمع، ولم تقتصر القصائد على الحزن والمأساة، بل حملت رسائل سياسية وثورية شكّلت وعيًا جمعيًا ضد الظلم. فصار الصوت الحسيني متداخلًا بالصوت السياسي. أصبحت المواكب مرتبطة بالمشهد السياسي المحلي، بقيت المواكب الحسينية مساحة مقاومة علنية في وجه الأنظمة الاستبدادية. و تحولت مراسم إحياء شعائر أهل البيت عليهم السلام في البحرين عن غيرها من البلدان الإسلامية إلى علامة جودة ومضرب مثل، ورسائل سياسية وأخلاقية عابرة للزمان والمكان. بين مشروع يريد إذلال الناس، وإذا كان نظام البحرين يظن أنه قادر على تحدّي العقيدة،