فرضية الثقافة فرضية الثقافة، التي تربط معدل الازدهار بالثقافة وفرضية الثقافة، تتسم بأصول متميزة، يرجع أصلها على الأقل إلى عالم الاجتماع الألماني الكبير "ماكس فيبر"، والذي رأى أن الإصلاح البروتستانتي والأخلاق البروتستانتية التي أفرزها قد لعبت دورا أساسيا في تمهيد الطريق أمام ظهور المجتمع الصناعي الحديث في أوروبا الغربية. إن فرضية الثقافة لم تعد قائمة فقط على الدين بصورة منفردة، والأخلاقيات أيضًا. وعلى الرغم من أنه ليس صحيحاً من الناحية السياسية أن تعبر عن ذلك بصورة علنية، حيث مازال الكثير من الناس يصرون أن الأفريقيين فقراء لأنهم يفتقدون الأخلاقيات العمل المناسبة، وأنهم مازالوا يعتقدون أيضًا في الدجل والسحر، وبالطبع، لقد اعتقد الكثيرون أن الثقافة الصينية والقيم الكونفشيوسية معادية للنمو والتطور الاقتصادي، وهونج كونج، وسنغافورة، والسؤال الآن هو: هل فرضية الثقافة تعد مفيدة في فهم حالة اللامساوة التيتسود العالم ؟ والإجابة هي نعم ولا؛ نعم، بالمعنى الذي تكون فيه معايير السلوكيات الاجتماعية - والتي ترتبط بالثقافة - هامة ويمكن أن يكون من الصعب تغييرها، كما أنها أيضًا تدعم في بعض الأحيان الفوارق المؤسسية، وهو ما يمثل التفسير الذي يتبناه هذا الكتاب فيما يتعلق بحالة اللامساواة التي تسود العالم. وتكون الإجابة في الغالب لا، لأن تلك الجوانب المتعلقة بالثقافة وغالبا ما يتم التأكيد عليها - العقيدة الدينية والأخلاقيات القومية، بالإضافة إلى أن الجوانب الأخرى مثل المدى أو الحد الذي يتبادل الناس عنده الثقة في بعضهم البعض أو تكون لديهم القدرة على التعاون سويا، والتي تعد هامة غير أنها تكون في الغالب محصلة ونتيجةللمؤسسات،والآن دعنا نعود مرة أخرى المثال نوغاليس، وكما ذكرنا من قبل، فإن الكثير من الجوانب المرتبطة بالثقافة هي نفس الشيء في شمال وجنوب السور الفاصل بين المدينتين؛ قد يكون هناك بعض الفوارق المميزة في العادات، والسلوكيات والقيم رغم أن هذه الأمور لا تمثل أسباباً وإنها نتائج ومحصلات المسارات التنمية والتطور المختلفة لكلا المكانين. فعلى سبيل المثال، في استطلاعات للرأي، يشير المكسيكيون بشكل واضح إلى أنهم يثقون في الأشخاص الآخرين بدرجة أقل من موقف مواطني الولايات المتحدة من حيث ثقتهم في الآخرين؛ غير أنه ليس من المفاجئ بأن يفتقد المكسيكيون الثقة عندما لا تستطيع حكومتهم أن تتخلص من اتحاد شركات الأدوية التي تستغل المواطنين أو أن تقدم نظام قانوني محايد يتم تطبيقه. إن نفس الشيء يعد صحيحًا بالنسبة لكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، كما نتعرض لذلك في الفصل التالي حيث إن كوريا الجنوبية تعد واحدة من أغنى الدول في العالم، في حين أن كوريا الشمالية تتصارع مع حالات من المجاعة المتكررة والفقر المدقع. إلا أنها لم تلعب دورا في وجود هذه الثروات الاقتصادية المتفاوتة بين هاتين نصفي هذه الدولة إن شبه الجزيرة الكورية يربطها ببعضها حقبة طويلة من التاريخ المشترك، فقبل الحرب الكورية وقبل التقسيم عندما يوازي خط عرض 38 كحدود فاصلة بينهما، والأصول العرقية، والثقافة تماما كما هو الأمر بالنسبة لتوغاليس المهم هنا هو الحدود الفاصلة بينهما. إن أي فارق في الثقافة بين جنوب و شمال الحدود التي تفصل بين شقي نوغاليس أو بين شقي كوريا لا يمثل إذا سبيا للفوارق الموجودة في حالة الازدهار، وإنها، بالأخرى، نتيجة ومحصلة له.وماذا عن إفريقيا والثقافة الإفريقية ؟ لقد كانت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء - من الناحية التاريخية - أكثر فقرًا من معظم المناطق الأخرى في العالم، كما أن حضاراتها القديمة لم تتوصل لابتكار العجلة، أو الكتابة (باستثناء إثيوبيا والصومال) أو المحراث على الرغم من أن هذه التكنولوجيات لم تكن مستخدمة على نطاق واسع حتى قدوم الاستعمار الأوروبي الرسمي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث إن المجتمعات الإفريقية كانت تعرفها في مرحلة مبكرة بكثير، وكان الأسيويون يبحرون بصورة مستمرة تجاه شرق إفريقيا منذ فترات زمنية مبكرة بكثير. والتي سميت جمهورية الكونغو الديمقراطية الحديثة توضح الخريطة رقم (6) الحدود التي كانت الكونغو مجاورة فيها الدولة إفريقية أخرى هامة وهي مملكة كوبا (أو باكوبا)، أصبحت الكونغو في اتصال قوي ومباشر مع البرتغاليين بعد أن زارها للمرة الأولى البخار "دييجو كاو" في عام 1483. في ذلك الوقت، كانت الكونغو تمثل نظاماً حكومياً مركزيا بدرجة كبيرة وفقا للمعايير الإفريقية، وكان عدد سكانها يبلغ قرابة ستين ألف نسمة، الأمر الذي جعلها تقريبا في نفس حجم العاصمة البرتغالية "لشبونة" وأكبر حجما من لندن، والتي كان يبلغ عدد سكانها قرابة خمسين ألف نسمة في عام 1500، اعتنق ملك الكونغو، "نزينجا إبي نيكووا"، ثم بعد ذلك تم تغيير اسم العاصمة"موبانزا" إلى "سأوو سلفادور"؛ ويرجع الفضل للبرتغاليين في تعريف الكونغوليين بالعجلة والمحراث، حتى أن البرتغاليين شجعوهم على استخدام هذه الآلات والوسائل من خلال البعثات الزراعية في عامي 1491 و 1512؛ غير أن جميع هذه المبادرات باءت بالفشل. ومع ذلك لم يكن لدى الكونغوليين كراهية أو نفور بشكل عام تجاه استخدام التكنولوجيات الحديثة؛ وعندما تعمقت علاقاتهم وعقودهم التجارية مع الأوروبيين، اتبع الكونغوليون عادات غربية أخرى مثل التعليم، وأنماط المليس، وتصميمات المنازل. في القرن التاسع عشر، استفادت الكثير من المجتمعات الإفريقية أيضًا من الفرص والمحفزات الاقتصادية المتنامية التي أفرزتها الثورة الصناعية من خلال تغيير أنماط وطرق إنتاجهم. وفي غرب إفريقيا كان هناك تطورًا وتنمية اقتصادية سريعة قائمة على تصدير زيوت النخيل والمكسرات النقل) وفي المنطقة الجنوبية من إفريقيا، قام الإفريقيون بتطوير حركة الصادرات للمناطق الصناعية والتعدينية المتزايدة والمتعة بشكل سريع بمنطقة الراند" الجنوب إفريقيا غير أن هذه التجارب الاقتصادية الواعدة قد تعرضت للطمس والزوال ليس كنتيجة لطبيعة الثقافة الإفريقية أو عدم قدرة الإفريقيين العاديين على التصرف وفقا لما يتناسب مع مصالحهم الشخصية،إن السبب الحقيقي وراء عدم تبني واستخدام الكونغوليين لوسائل التكنولوجيا المتفوقة كان يرجع إلى أنهم كانوا يفتقدون لأي محفزات أو فرص تدفعهم للقيام بذلك؛ لقد واجهوا مخاطر كبيرة تتعلق بمصادرة كل ما كانوا يقومون بإنتاجه، وكانت تفرض عليهم الضرائب من قبل الملك المستبد بالقوة والسلطة، سواء كان قد اعتنق المسيحية الكاثوليكية أم لا، وفي الحقيقة، حيث كان استمرارهم على قيد الحياة معلقا بخيط رفيع. وكان يتم الإمساك بالكثير منهم به ثم يباعوا كعبيد - وبالكاد لم تكن هذه البيئة المناسبة التي تشجعهم على الاستثمار من أجل زيادة معدل إنتاجية العمل بشكل طويل المدى. كما أن الملك لم يكن لديه محفزات وفرص لكي يبدأ في تبني استخدام المحراث على نطاق واسع أو أن يجعل من زيادة الإنتاجية الزراعية أولوية رئيسية بالنسبة له؛ لقد كان تصدير العبيد أكثر ربحاوفي الحقيقة، قد يكون من الصحيح اليوم أن الإفريقيين يثقون في بعضهم البعض بدرجة أقل من الأشخاص الذين يعيشون في مناطق أخرى من العالم؛ غير أن هذا يعد محصلة ونتيجة لتاريخ طويل من المؤسسات التي أضعفت وقوضت حقوق الإنسان وحقوق الملكية في إفريقيا.ولكن ماذا عن الأخلاق البروتستانتية التي تحدث عنها "ماكس فيبر"؟ ورغم أنه قد يكون من الصحيح أن الدول التي يسود فيها المذهب البروتستانتي، مثل هولندا وإنجلترا، كانت تمثل أول نماذج النجاح والتفوق الاقتصادي في الحقبة الحديثة، إلا أن هناك علاقة ضعيفة بين الدين وبين التفوق الاقتصادي؛ فعلى سبيل المثال، فرنسا، كدولة يغلب عليها المذهب الكاثوليكي، سرعان ما بدأت في محاكاة الأداء والتطور الاقتصادي الذي حققه الهولنديون والإنجليز في القرن التاسع عشر، وكذلك إيطاليا مزدهرة اليوم مثل هذه الدول. فسوف ترى أنه ليس هناك علاقة بين أي من حالات النجاح والتطور الاقتصادي الموجودة في شرق آسيا وبين أي صيغة أو شكل من أشكال الدين المسيحي، ولذلك فإنه ليس هناكأيضا ما يؤيد بقوة وجود علاقة خاصة بين المذهب البروتستانتي وبين التفوق والتطور الاقتصادي في هذه الدول. والآن دعنا ننتقل إلى منطقة مفضلة بالنسبة لكثير من المتحمسين للافتراض القائم إن دول الشرق الأوسط هي في الأصل دول إسلامية، والدول غير المنتجة للنفط من بينها تعد دول فقيرة بدرجة كبيرة، أما الدول المنتجة للنفط فهي أكثر غنى، غير أن هذا الوصول المفاجئ للثروة لم يقدم الكثير من أجل خلق اقتصاديات حديثة متنوعة سواء في المملكة العربية السعودية أو الكويت. ألا تظهر هذه الحقائق بشكل مقنع أن الدين لا يلعب دورا هاما في هذه المسألة ؟ ورغم أن هذا يبدو منطقياً ومعقولا، إلا أن هذه الحجة ليست صحيحة أيضًا؛ أجل بالفعل، فهناك دول مثل سوريا ومصر تعد فقيرة، وسكانها في الأصل مسلمين غير أن هذه الدول تختلف أيضًا من الناحية التنظيمية بطرق أخرى تعد غاية في الأهمية بالنسبة لتحقيق الازدهار؛ وفي البداية، كانت جميع هذه الدول أقاليم تابعة للإمبراطورية العثمانية، وهو الأمر الذي أعاق مرة أخرى إمكانية الاستفادة من الإمكانيات والموارد المتاحة في هذه الدول؛ وبعد الحصول على الاستقلال، اتبعت هذه الدول الكثير من الأنظمة التي كانت سائدة إبان الحقبة الاستعمارية السابقة عن طريق وضع وتبني أنظمة حكم سياسية سلطوية ذات تدرج هرمي، مع وجود القليل من المؤسسات الاقتصادية والسياسية التي - كما سنناقش - تعد هامة وأساسية بالنسبة لتحقيق التطور والنجاح الاقتصادي. لقد تشكل هذا المسار التنموي بدرجة كبيرة من خلال التاريخ المتعلق بحقبة الحكم العثماني والأوروبي. إن العلاقة بين الدين الإسلامي وبين حالة الفقر الموجودة في الشرق الأوسط تعد زائفة إلى حد كبير. إن دور هذه الأحداث التاريخية، وليس العوامل الثقافية، في تشكيل المسار الاقتصادي في الشرق الأوسط يتم إدراكها أيضًا في ثنايا الحقيقة التي توضح أن المناطق الواقعة في الشرق الأوسط، والتي تخلصت من قبضة الإمبراطورية العثمانية والقوى الاستعمارية الأوروبية، استحوذ "محمد على" وسيطر على السلطة بعد انسحاب القوات الفرنسية التي كانت قد احتلت مصر بقيادة نابليون بونابرت؛ مستغلا حالة الضعف التي كانت تعاني منها الدولة العثمانية والتي كانت تسيطر على الأراضي المصرية في ذلك الوقت، حيث استطاع أن يؤسس لأسرته الحاكمة، والتي استطاعت - بصيغة أو بأخرى - أن تحكم مصر حتى قيام ثورة 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، حيث تم تحديث الروتين الحكومي، والجيش ونظام الضرائب، وكان هناك نمو في الزراعة والصناعة؛ حيث خضعت مصر للنفوذ الأوروبي. غير أنه ربما تكون هذه هي الطريقة الخاطئة التي يجب أن نفكر بها عن الثقافة؛ لا ترتبط بالدين، وربما يكون تأثير الثقافة الإنجليزية هو الذي يمثل العنصر الهام هنا، كما أنه يفسر السبب الذي يجعل دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، أجل بالفعل، إن التفاوت في حالة الازدهار بين المستعمرات الإنجليزية يعد كبيرا بشكل ملحوظ في كل أنحاء العالم. إن الميراث الإنجليزي ليس هو السبب في نجاح وتفوق أمريكا الشمالية. غير أنه ما زال هناك إصدار آخر من فرضية الثقافة: فمن المحتمل ألا يكون ما هوإنجليزي في مقابل ما هو غير إنجليزي هو السبب في ذلك، ما هو أوروبي فيمقابل ما هو غير أوروبي؛ هل يمكن أن يكون الأمر يتمثل في أن الأوروبيين متفوقونبدرجة ما بسبب أخلاقيات العمل الخاصة بهم، والانفتاح على الحياة، والقيم اليهوديةوالمسيحية، أو التراث الروماني ؟ صحيح أن أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، واللتانيقطن بهما في الأصل أشخاص ينتمون إلى أصول أوروبية،ازدهارًا في العالم؛ وربما يكون الميراث الثقافي الأوروبي المتفوق هو الذي يشكل جذورالازدهار الموجود - وهو ما يمثل الملاذ الأخير بالنسبة لفرضية الثقافة؛ ولكن للأسفالشديد، هذا الإصدار من فرضية الثقافة يقدم القليل من العناصر التفسيرية مثله فيذلك مثل الإصدارات الأخرى. إن هناك نسبة أكبر حجما من سكان الأرجنتينوأوروجواي - بالمقارنة مع سكان كندا والولايات المتحدة الأمريكية - تنتمي إلىأصول أوروبية، غير أن الأداء الاقتصادي لكل من الأرجنتين وأوروجواي لا يفسحالمجال للمزيد من الخوض في هذا الصدد. وفي حين أن اليابان وسنغافورة لم يكن يوجدبهما أبدا سوى مجموعات صغيرة من السكان الذين ينتمون لأصول أوروبية، إلا أنهايتمتعان بحالة من الازدهار مثل مناطق كثيرة من أوروبا الغربية.وكذلك الأمر بالنسبة للصين - على الرغم من الاضطرابات الكثيرة التي تشوب نظامها السياسي والاقتصادي - فهي تعد واحدة من أكثر الدول التي تشهد تطورا ونموا بمعدل سريع خلال العقود الثلاثة الماضية. إن حالة الفقر التي كانت تمر بها الصين حتى وفاة "تسي تونج" لم يكن لها علاقة بطبيعة الثقافة الصينية؛ قام في الخمسينيات من القرن العشرين بوضع نظام أطلق عليه "القفزة الكبر إلى الأمام"، قام بالدعوة إلى انطلاق "الثورة الثقافية"، والتي أفضت إلى اضطهاد أصحاب الفكر والمثقفين والمتعلمين من المواطنين أي شخص قد يدور الشك حول ولاء حزبه للنظام. وبنفس الطريقة فإن النمو والتطور الصيني الراهن ليس له علاقة بطبيعة القيم الصينية أو التغيرات الموجودة في الثقافة الصينية؛ إنه ينتج عن عملية من التحول الاقتصادي مدعومة بالإصلاحات التي نفذها "دينج شياو بنغ" وحلفائه، والذي - بعد وفاة ماو تسي تونغ - تخلى تدريجيا عن السياسات والمؤسسات الاقتصادية الاشتراكية،