منهج الشك عند الغزالي صبحي ريان الباطنية والصوفية. فهو عرض موجز لتجربته في ميدان البحث والنقد المعرفي. ومما يقوي هذه الدعوى هو مؤلفات الغزالي في فترة الكلام وقبل وصوله الى الصوفية التي تتناول معظمها نقد الافكار الرائجة في تلك الفترة مثل افكار الفلاسفة والباطنية وغيرها. ونلاحظ ان الغزالي يحدد منذ البداية ان هدف بحثه هو الوصول للمعرفة اليقينية, وهذا اضطره الى مراجعة المذاهب الفكرية ونقدها. واثبات الدعوى التي تعتبر الشك منهجا تفكيريا واسلوبا في التفكير النقدي يهدف الى تنقية المعرفة من الشوائب والاغاليط وكشف حقائق الاشياء. كما انه تفكير نقدي لمعطيات تعتبر صحيحة ضمنيا في الوعي الاجتماعي والمعرفي, وليس الى مضمونها. هذا الادعاء بان الشك منهج بحث يتعارض مع كثير من الباحثين ومن بينهم. Osman Bakar الذي يقول: ان الروح العامة لكتاب "المنقذ من الضلال" لا تؤيد الفكرة القائلة بان الغزالي يدافع عن منهجه الشكي كاداة للبحث عن الحقيقة. نحن نعتقد بقوة بان الصوفية لعبت دورا حاسما في وصول الغزالي الى ازمته المعرفية, 1) وقد وصفها "كبحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه الا الاقلون, وكل فريق يزعم انه الناجي. 4) حيث وجد ان الانتماء الفكري لمذهب معين ينتج عن التقليد وليس نتيجة للبحث والدراسة " حتى انحلت عني رابطة التقليد, وانكسرت علي العقائد الموروثة, وصبيان المسلمين لا نشوء لهم الا على الاسلام". (5) وعند توصله الى هذه النتيجة اخذ يبحث عن حقيقة الفطرة الاصلية(6) التي تشكل الاساس لبداية البحث عن الحقيقة. وتكتسب هذه العقائد الموروثة عن الاباء والمعلمين بواسطة التقليد المنافية للتفكير المستقل والبحث الهادف الى الوصول الى الحقيقة. ولاتكن في صورة اعمى تقلد قائدا يرشدك الى طريق وحواليك ألف مثل قائدك ينادون عليك بانه اهلكك واضلك عن سواء السبيل, فلا خلاص الا في الاستقلال". 7) هذه دعوة واضحة للبحث عن الحقيقة بصورة ذاتية ومستقلة, وعدم اتباع مذهب معين باعتباره يملك الحقيقة ويوفرها لاتباعه. فان غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيدا له وحجابا اذ ليس من شرط المريد الانتماء الى مذهب معين اصلا". وتكمن اهمية هذا التقييم في كشف ارائه ضد التقليد بكونها احدى العوامل المهمة في تطوره الفكري. ويلاحظ استعماله لضمير المتكلم في وصف تجربته الذاتيه, انما ليؤسس بحثا معرفيا بناءا وحقيقيا. هذا البحث هو نتيجة لحبه للحقيقة, يقرر الغزالي بان اهمية الفكرة تنبع من الفكرة ذاتها, وان المهمة الملقاة على عاتق المذاهب ورجالها هي البحث عن الحقيقة, بمعنى انهم لا يعتبرون بذواتهم معيارا للحقيقة. "وهكذا تصبح انجازات الوعي والمعرفة الانسانيتين مقبولة بحد ذاتها, انه يرفع ممارسة اظهار اهمية الفكرة بحد ذاتها فوق كل العوارض العقائدية والمذهبية ليحولها بالتالي الى مستوى المبدأ النظري". 10) وهذا يعتبر تحطيما للاطر التقليدية في الوعي, واشتغالا في المادة الموضوعية التي تعطي مساحة من حرية التفكير المستقل غير متعلقة بعوامل اخرى. وهكذا لا يبقى للتقليد اي معنى لوجود الحاجة الدائمة للاجتهاد واستقلالية الاحكام. باعتبارها الحالة او الصورة الاولى التي خلق عليها الانسان, لكنه لا يستطيع الوصول الى الفطرة لان التراث المذهبي والعقائدي يشكل حاجزا وحجابا تفصل بينه وبين الفطرة. وهنا يضع الغزالي معيارا صارما لقبول الشىء المعلوم. ولم يحصل لي منه الا التعجب من كيفية قدرته عليه, فلا". ومن الجدير ذكره ان مثال "قلب العصا الى ثعبان" هو بمثابة برهان حسي ظاهر, الشك بالحواس والعقل ويبدأ بحثه في عالم الحس بكونه المرحلة المعرفية الاولى "فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات, وانظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها". 13) ويصف الغزالي شكه بالحواس قائلا: من أين الثقة بالمحسوسات, وأقواها حاسة البصر, وهي تنظر الى الظل فتراه واقفا غير متحرك, وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف انه متحرك وانه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة, هذا وامثاله يحكم فيها حاكم الحس باحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل الى مدافعته, فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات ايضا فلعله لا ثقة الا بالعقليات التي هي من الاوليات. 14) ويحاول اثبات هذه الفرضية بواسطة امثله من عالم الحس التي يحكم بها العقل بخطأ الحواس. بعد اختبار معطيات الحس والتشكيك بها, ينتقل الغزالي لاختبار معطيات العقل الذي يعتبر مرحلة معرفية اكثر تطورا من الحواس وحاكما عليها وبامكانه التميز بين الصح والخطأ بالنسبة للاشياء المتعلقة بالحواس. ولكن الاشكالية التي تواجه الغزالي في بحثه هي "فلعل وراء ادراك العقل حاكما اخر, اذا تجلى, كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الادراك لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت أشكالها بالمنام, وقالت: أما تراك تعتقد في النوم امورا وتتخيل أحوالا وتعتقد لها ثباتا واستقرارا, ولا تشك في تلك الحالة فيها ثم تستيقظ فتعلم انه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس او عقل هو حق بالاضافة الى حالتك >التي انت فيها< لكن يمكن ان تطرأ عليك حالة تكون نسبتها الى يقظتك كنسبة يقظتك الى منامك وتكون يقظتك نوما بالاضافه اليها فاذا وردت تلك الحالة تيقنت ان جميع ما توهمت بعقلك خيالات لاحاصل لها". 15) هنا يفترض الغزالي وجود طور ما بعد العقل الذي يمكنه ان يحكم على معطيات العقل بكونه مرحلة معرفية اكثر تطورا من العقل. وقد يصل الانسان الى هذه الحالة تلقائيا بعد الموت, ولكن يمكن الوصول اليه ايضا في حالة الكشف والالهام الصوفية التي تتطلب جهدا فكريا كبيرا او تفكيرا مجردا الذي من شأنه ان يقلل من وظيفة الحواس لمستواها الادنى. ويظهر هنا تأسيس المعرفة على ثلاثة مراحل – الحواس, العقل وطور ما بعد العقل- ويبدو ان الفارق بين الحواس والعقل شبيها للفارق بين العقل وطور ما بعد العقل, لكن هذه المراحل ليست منفصلة انما هنالك علاقات تبادل وتكامل فيما بينها. ويعرف الانسان الوجود ويحكم عليه من خلال الحواس والعقل, بالمقابل عندما يمر الانسان بتجربة الحلم يكون واثقا بالاشياء التي يراها في حلمه بدون ان يشك بها وقت الحلم. لكن يتغير حكم الانسان عند رجوعه الى الواقع. اذا نحن امام حالات مختلفة, وكل منها صحيحة باطار الزمن الموجودة به وكل حالة لها الاحكام الخاصة بها. وعندما نجرب هذه الحالة نتيقن ان الاشياء التي نكتسبها بواسطة العقل خيالات غير صحيحة. في حالة النوم لا يعرف الانسان انه في حالة حلم, ويتضح له ذلك فقط عند اليقظة, يشكل هذا الادعاء اشكالية صعبة بالنسبة الى القضايا الحسية والعقلية معا, وهو يشكك بجميع مصادر المعرفة الانسانية بحيث يجعل امكانية تحقيق اليقين غاية في الصعوبة بل مستحيلة المنال. يصل الغزالي الى حالة صعبة جدا, فهو شك في المستويين المعرفي والوجودي معا لانه بحث في هل وكيف يمكننا معرفة الواقع؟ وما هو الموجود في الواقع؟ ويدخل الغزالي الى أزمة عميقة بسبب الشك بالحواس والعقل, وتعتبر هذه الحالة أوج المسار الشكي والموصوفة بمرض عضال والتي كان لها تأثيرا على كيانه ووجوده ويمكن اعتبار هذه الحالة بالشك الوجودي. لانه لا يمكن ايجاد أجوبة لهذه الشكوك الا بواسطة البراهين التي تقوم على العلوم الاوليه, فمن ظن ان الكشف موقوف على الادلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة"(17). بالرغم من اهمية النور الالهي الا ان الغزالي لم يسهب في شرحه وتفصيله, لكننا يمكن ان نستنتج ان هذا النور لا يتعارض مع العقل بالرغم من انه ليس عقليا, ومن ناحية اخرى لا يمكن اعتباره لا عقليا لانه يوصل الى الحقيقة في القضايا العقلية ويقوي يقينية البدهيات العقلية. فهي أوليه بمعنى انها موجودة, لكن يصعب برهنتها لانها لا تخضع لمنطق البدهيات. " والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب حتى ينتهي الى طلب مالا يطلب. وهو يرى بالنور الالهي ذلك اليقين اللامنطقي الذي يمكن ان يؤسس عليه البدهيات العقليه. دور الشك في نظرية المعرفة عند الغزالي نلاحظ ان مهمة الشك الاساسية عند الغزالي هو الوصول الى الحقيقة كما هي, فهو أداة او منهج معرفي يهدف الى تنقية (غربلة) المعرفة الانسانية من أخطائها وجهالاتها, وليس منهجا لكشف عجز المعرفة والتشكيك بمجمل ابداعاتها وانجازاتها. لذلك يكون الشك موجها نحو المنهج وليس للمعرفة ذاتها. فمن لم يشك لم ينظر, ومن لم ينظر لم يبصر, لا يكتفي الغزالي بتحديد دور الشك كمنهج يوصل الى الحقيقة, بالاضافة الى ربطه بين الشك والوصول الى الحق, يؤكد الغزالي على منهجية كشف الحقيقة التي تبدأ بالشك وتنتهي بالوصول الى الحق. نستنتج ان الشك يعني عملية التفكير, لان النظر يعني الدراسة العميقة التي تعتمد على العقل, وهذا يعني ان كل دراسة عقلية او تجريبة تهدف الى الوصول الى الحقيقة, فالشك منهج يسعى الى تأسيس المعرفة على اسس يقينية, يتم الوصول اليها بواسطة التفكير النقدي الذي يعنى بمراجعة المعطيات المعرفية وتمحيصها من الاخطاء. الحس والعقل – وهي عملية مراجعة نقديه وتقييم جديد لهذه المصادر. يحاول الغزالي من خلال هذا المنهج النقدي تطهير الموروث المعرفي المكتسب بواسطة تقليد الاباء والاساتذة من الاخطاء والضلالات. فهو لا يسعى الى الغائه او نفيه, انما فحصه واختباره باليات التفكير الصحيح, هذا المنهج النقدي يمكنه كشف المعارف الباطله والتي اصبحت جزءا من الموروث الحضاري للامة, وتنتقل من جيل الى اخر كمعارف صحيحة ومقبولة, وفي بعض الاحيان قد تعتبر "مقدسة" خارج دائرة التفكير المسموح بها. ثم ينتقل الغزالي الى نقد الحس والعقل كمصادر للمعرفة, وهما اكثر يقينا من التقليد. والتشكيك في هذه المعارف لا يعني سوى اعادة التفكير بها من جديد وتأسيسها على قواعد يقينية وصحيحة, وليس الهدف مجرد التشكيك لذاته وكشف عجز الحس والعقل. ونلحظ ان مستوى الوعي الراقي الذي وصل اليه الغزالي هو اعادة التفكير في التفكير والذي يعني وعي الوعي او تحويل مادة التفكير الى صورة تفكير او اداة تفكير, ومعنى الشك بالمعارف الحسية والعقلية والتي تمثل كل موجود في العالم, وتأسيس كل شىء على التفكير. فهو يشك في كل شيء, الا شيئا واحدا لا يمكنه الشك به وهو الشك بانه يشك, اي انه لا يستطيع الشك بانه يفكر, وهذا هو وعي الوعي. اذا يقوم الغزالي بعملية الغاء للعالم كله بواسطة الشك المنهجي, فهو يلغي المضمون المعرفي ويبقى مع طريقة التفكير, وهنا لا يمكن الحديث عن "تطابق" لان التفكير هو( شىء) اي حقيقة صوريه. ووجود اداة التفكير لا يعني بالضرورة تطابقها مع المضمون المعرفي الموجود. يحصر الغزالي نفسه داخل دائرة التفكير, بمعنى انها تفرض نفسها على الوعي من داخل الوعي وليس من خارجه وهي ليست من الانا المفكرة. فهو يجد مثلا فكرة الله داخل الوعي, لكن هذه الفكرة لم تكن نتيجة للتفكير, وانما وجودها كان ضروريا ومفروضا على الوعي من داخله. فهو يشك بكل موجود لاعتقاده بوجود شيء هو البداية, ويحاول الغاء كل شىء موجود للوصول الى نقطة البداية, لان هذه الموجودات تشكل حاجزا لكشفها. وسبب هذا السعي الدؤوب الى البداية لانها تشكل الاساس اليقيني لكل الموجودات. فالوصول اليها يعني الوصول الى اليقين وهو مرتبط بالوعي الذاتي, لذلك يمكن الانتهاء اليه وليس الابتداء منه. وهو بذلك يزيل كل التراكمات العقائدية, وهو يسعى للوصول الى هذه البداية لكونها الحقيقة اليقينية الوحيدة التي يمكن ان يؤسس عليها يقينية الموجودات الاخرى. 13) الغزالي, المنقذ من الضلال, ص84. ص84. 15) الغزالي, 16) الغزالي, المنقذ من الضلال, ص86. 18) الغزالي, المنقذ من الضلال, ص88