أي أن الله اصطفاه من بين جميع العباد ليكون حبيب الله، أي منزلة وأي مكانة كالتي وصل إليها إبراهيم عند ربه ليتخذه خليلا !! إنه النبي الذي قال فورًا أسلمت لرب العالمين، حين أمره الله بالإسلام. وها نحن سنقدم لك تفصيلًا لتلك المسيرة منذ بداية رحلته في البحث عن الله ومواجهته مع أبيه، وتجلي قدرة الخالق عز وجل في إنقاذ إبراهيم من النار. ولد إبراهيم وسط قومٍ كافرين؛ فمنهم من يعبد الأصنام والحجارة، بل كان أبو إبراهيم صانعًا للتماثيل التي يعبدها قومه، وبذلك كانت أسرة إبراهيم تمتلك مكانة متميزة بين قومه. وأصبح إبراهيم مشغول البال يفكر كثيرًا، كان يفكر كيف أن أبيه يصنع من الحجارة تمثالًا، رغم أنها مصنوعة من الحجارة لا تملك عقلًا ولا تتكلم، أين الله يا تُرى ؟!! هكذا كان يفكر إبراهيم في خلواته مع نفسه. ذات ليلة كان إبراهيم جالسًا يتفكر ويتساءل من هو الله؟ وأين يوجد يا تُرى؟ وبينما هو على ذلك الحال إذ رأى كوكبًا يلمع في السماء وسط ظلمات الليل، كما أنه لا يتحطم كتماثيل الحجارة. فرح إبراهيم لظنه أنه قد اهتدى للأمر الصواب، ولكن في الصباح الباكر نظر إبراهيم إلى السماء فلم يجد الكوكب!! “فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ” لم ييأس إبراهيم واستمر في رحلة بحثه عن الله، وذات ليلة لمح إبراهيم القمر مكتملًا ينير السماء، حزن إبراهيم أشد الحزن وقال ” لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ “. وذات يوم جلس إبراهيم تحت ضوء الشمس، فنظر إليها ورآها كبيرة تنير الكون بأكمله، فأدرك إبراهيم أنها ليست إله الكون كما كان يظن. هو الله خالق الكون بأكمله، بما فيه الشمس والقمر والنجوم والكواكب. وأصر أن يذهب لأبيه ويتحدث معه، فلما ذهب إليه وجد أبيه يتعبد للأصنام التي صنعها، فانتظره إبراهيم حتى انتهى ثم بدأ حديثه مع أبيه. قال إبراهيم لأبيه يا أبتي لماذا تعبد تلك الأصنام التي لا تنفعك بشئ؛ فأخبره إبراهيم أن الشيطان هو الذي يسول له ولقومه الضلال والكفر وعبادة الأصنام، وحذره أنه إذا استمر في العصيان فسوف يكون مصيره النار وبئس المصير. توعد والد إبراهيم ابنه بالضرب والقتل والرجم إذا لم يكف عن الهجوم على الأصنام والتشكيك بألوهيتهم والدعوة إلى الله ثم طرده من المنزل، وأنه لن يستجيب له ” قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا. ترك إبراهيم أبيه وتوجه إلى قومه ليدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وترك عبادة تلك الأصنام، وبدأ بالتحدث إلى الملك والذي كان يسمى النمرود ومن حوله يتواجد أتباعه وخدمه، غضب قوم إبراهيم وصاحوا به أنه يسخر منهم ومن آلهتهم ويلعب بهم، قال إبراهيم لقومه أن الله هو من بيده إحياء الناس وإماتتهم، وأمر بالإتيان برجلين من المدينة، فلما حضرا أمامه أمر بقتل أحدهم وترك الآخر حيًا لم يمسسه ثم توجه إلى إبراهيم وقال أرأيت؟ لقد أمت واحدًا وأحييت واحدًا آخر. ظن النمرود أنه عندما أمر رجاله أن يقتلوا شخصًا ويعفوا عن الآخر، حينها قال إبراهيم للنمرود إن الله هو القادر على إتيان الشمس من المشرق، وتحدى إبراهيم النمرود إذا كان على حق، ولم يستطع الرد على إبراهيم. ذكر الله سبحانه وتعالي قصة النمرود في قرآنه الكريم بقوله عز وجل “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”. فلما صد النمرود وأتباعه رسالة الله إليه ولم يتبعوا إبراهيم وسخروا منه وأذوه أمر الله بإهلاكهم فأرسل عليهم الذباب والبعوض كجيوش انتشرت سريعًا حتى حجبت عنهم ضوء الشمس وبدأت تأكل في لحومهم وتصيبهم بالمرض. وإحياء الموتى لم يستطع إنقاذ نفسه من الهلاك. خطط إبراهيم أمرًا في نفسه وعزم على تنفيذه، حيث كان هناك احتفالًا يقام في مكان ما بالمدينة التي يعيش بها قوم إبراهيم. انتظر إبراهيم حتى تجمع قومه وذهبوا إلى الاحتفال، ثم توجه إلى المعابد التي توجد بها التماثيل والأصنام. نظر إبراهيم إلى التماثيل المصنوعة من الحجارة، وبدأ في توجيه حديثه إليها وقال ساخرًا: ما لكم لا تأكلون!! وما لكم لا تنطقون!! ثم حمل فأسه وأخذ يكسر تلك الأصنام وحولها إلى قطع أحجار صغيرة، لعل ذلك يُرجع قومه إلى صوابهم، ورأوا ما حدث لأصنامهم فأعمى الضلال والكفر قلوبهم؛ من الذي تجرأ على آلهتهم؟ من الذي فعل بها هذا؟ حينها تذكروا ما كان إبراهيم يدعوهم إليه، وطلب من قومه أن يسألوا كبير الأصنام عما حدث إن كان قادرا على الكلام والنطق ” قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ “، حينئذ قال إبراهيم أرأيتم تلك التماثيل التي لا تنطق، ولكن سرعان ما عاد كبريائهم فأمر القوم بإحراق إبراهيم ” قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ “، وإحضاره ليتم حرقه جزاءًا لما فعله بآلهتهم من دمار وتخريب. بدأ الاستعداد لحرق إبراهيم، وتجمع الناس من جميع البلاد المجاورة؛ ومن شدة حرارة النيران لم يستطيع القوم أن يقتربوا منها لإلقاء إبراهيم فيها فأحضروا آلة كبيرة جدا تسمى المنجنيق، ووضعوا إبراهيم فيها استعدادًا لإلقائه في حفرة النار، وحينها ظهر جبريل على إبراهيم وسأله إذا كان يطلب شيئًا فرد عليه إبراهيم بأنه لا يطلب شيئًا. ألقي قوم إبراهيم به في النار وصاح الناس ساخرين به، فهو الذي كان يحذرهم من دخول النار بسبب كفرهم وضلالهم ها هو من يدخل النار بنفسه، ولكن جلالة وقدرة الله فوق كل شئ، فقد أمر الله النار أن تكون باردة على إبراهيم ” يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ”. حينها أًبحت أصبحت النار لطيفة على إبراهيم فهي تبدو من الخارج مشتعلة، يسبح فيها إبراهيم ربه ويذكره ويحمده. انتظر قوم إبراهيم طويلًا حتى تنطفئ النار، حينها خاف قوم إبراهيم منه، ولكن الله ألحقهم بالعذاب والهلاك الشديد، فهلكوا إلا إبراهيم الذي نجاه الله من القوم الكافرين. وعدم إحراق جسده حتى بعد إلقائه بها حديث القوم في كل مكان، واستمر إبراهيم في الدعوة لعبادة الله في جميع الأنحاء ولم يصيبه اليأس، أما أبيه فلم يستجب له أبدًا بل تبرأ منه وطرده، وها نحن نرى مثالًا آخر لقصة نوح عليه السلام مع ابنه فلم يستطع نوح أن ينقذ ابنه من الكفر والضلال وحاول كثيرًا بدون فائدة حتى أهلك الله ابن نوح في الطوفان، كذلك الأمر مع والد إبراهيم الذي لم يستجب لدعوة ابنه له واستمر على كفره وعصيانه حتى أهلكه الله. قرر إبراهيم مغادرة بلده والهجرة إلى بلد أخرى، فإذا كان زوجها فسوف يقتله. اتفق أن يقول للملك أن السيدة سارة أخته حتى لا يقتله، وعندما عرفت السيدة سارة ما في نية ذلك الحاكم، وعندما حاول الملك لمسها، فخافت السيدة سارة من أن يقتلها خدامه وأعوانه، لما رفع الله عن الملك البلاء، لم يتب من فعلته الشنيعة بل هجم عليها ثانيةً؛ وللمرة الثالثة عاد الحاكم الكافر للهجوم على السيدة سارة ومحاولة التعدي عليها؛ وقام بإعطائها خادمة تسمى هاجر والتي تزوجت فيما بعد بسيدنا إبراهيم. كانت السيدة سارة عقيم لا تلد، ففكرت السيدة سارة في أن تزوج جاريتها هاجر من زوجها إبراهيم، لما عرضت سارة على إبراهيم تلك الفكرة قال لها إبراهيم أن الغيرة ستصيبها عندما يتزوج من هاجر، ولكن السيدة سارة أصرت عليه، بالفعل تزوج إبراهيم من السيدة هاجر، وذات ليلة كان إبراهيم جالسًا أمام الخيمة التي يسكن فيها مع السيدة سارة، فلما وصلوه له ألقوا عليه السلام؛ رد عليهم إبراهيم السلام وأكرمهم وأمر بذبح عجلًا لهم ليأكلوه فهم ضيوفه وواجب عليه إكرامهم. فلما سمعت السيدة سارة ذلك الكلام؛ أكد الملائكة على إبراهيم وزوجته سارة أن الله سيرزقهما بغلام، رغم العوائق التي يقابلونها وسيكون ذلك الغلام نبيًا ذات يوم، فسألهم إبراهيم إلى أين يذهبون بعد ذلك فأخبروه أنهم ذاهبون إلى قوم لوط. كان لوط ابن أخي إبراهيم وكان قومه كافرين، فقالت الملائكة لإبراهيم أنهم ذاهبون لإهلاك أولئك الكافرين، وسوف يكوم ذلك في الصباح فهو ليس ببعيد. في ذلك الوقت كانت السيدة هاجر زوجة إبراهيم الثانية حاملًا، ثم وضعت طفلًا سماه إبراهيم إسماعيل؛ فحمله إبراهيم بيديه وأخذه إلى السيدة سارة ليريها الطفل فلما رأته شعرت بالغيرة الشديدة وطلبت من إبراهيم أن يرحل هو وزوجته هاجر بعيدًا عن بيتها؛ أخذ إبراهيم زوجته هاجر وابنه الصغير إسماعيل وسار بهما في الصحراء، حتى وصل إلى وادي موجود في الجزيرة العربية ولكن ليس به ماء أو زرع؛ بدأ إبراهيم بإنشاء الخيام لزوجته ثم ترك لزوجته وابنه قربة ماء وبعض الطعام. فاستجابت هاجر واثقة أن الله لن يضيعها هي وابنها إسماعيل. تركهم إبراهيم ودعا ربه قائلًا ” رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” عاد إبراهيم إلى داره حيث تسكن زوجته سارة، فقد رزقت الله السيدة سارة بولدٍ أسماه إبراهيم إسحاق، حتى وصلت إلى الصفا والمروة، وهما جبلان كبيران بينهما وادي. ثم صعدت إلى جبل المروة وهي تبحث في كل مكان أعلى الجبل، وهكذا أخذت تصعد ما بين جبل الصفا والمروة سبعة مرات. وهنا ندرك الحكمة من صعود الحجاج وسعيهم في الصفا والمروة سبعة مرات، فهم يفعلون كما فعلت السيدة هاجر من أجل الحصول على ماء لصغيرها الرضيع. ولم تستطع السعي بين الجبلين مرة أخرى، انتشرت الأخبار في المناطق المجاورة للسيدة هاجر أن هناك بئرًا في الصحراء فأقبل الناس من جميع الجهات وساد العمران في المكان، وحين جاء إبراهيم إلى المكان ليطمئن على هاجر وابنه إسماعيل لم يستطع التعرف على المكان حيث وجد أناسًا كثيرة وعمران؛ ولكن عندما أخبره الناس أن هاجر تسكن هنا مع إسماعيل، ثم أصبح إبراهيم يأتي كل عام لزيارة هاجر وإسماعيل، ذات ليلة كان إبراهيم يحلم أثناء نومه، فسمع هاتفًا في المنام يقول له: إن الله يأمرك أن تذبح ابنك إسماعيل فاستيقظ إبراهيم من نومه، وقال يا رب إن كنت تأمرني بذبح إسماعيل فسوف أطيعك، للمرة الثانية يسمع إبراهيم النداء في المنام، فاستيقظ إبراهيم مرة أخرى وقام بصلاة ركعتين لله يسأل الله فيهما أن يدله على الحق ثم عاد للنوم وللمرة الثالثة يسمع نفس النداء. وأن الله يأمره بذبح ابنه إسماعيل، قرر إبراهيم في قرارة نفسه أن يلبي نداء ربه، أي قلب كهذا؟! أي أب يستطيع أن يذبح ابنه لروية رآها؟! إنه إبراهيم خليل الرحمن الذي لا يعصي الله في أمرٍ أبدًا. ذهب إبراهيم لابنه إسماعيل، وقال له إني رأيت رؤيا يأمرني فيها الله بذبحك، وجعل عينيه تنظر للأرض حتى لا يرى عيني ابنه وهو يذبحه فيرق قلبه ولا يستطيع إكمال ما أمره الله به. وحينما وضع السكين على رقبة ابنه استعدادا لذبحه وتنفيذًا لأمر الله، وإذا بالملك يأمره ليذبح ذلك الكبش، ليعيش ويكون إبراهيم قد نفذ أوامر الله ولم يعصاه. فرح إبراهيم لذلك كثيرًا وحمد الله وشكره كثيرًا، أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم ببناء الكعبة بمساعدة ابنه إسماعيل فلم يتكاسل إبراهيم، بل استجاب فورًا لأمر ربه وأخبر ابنه بذلك فأطاع أوامر الله عز وجل، أخذ إبراهيم وابنه يؤسسان حجر الكعبة، وكان إبراهيم يبني وابنه إسماعيل يقوم بمساعدته بتوصيل الحجر له، وحينما شعر إبراهيم بالتعب أمر إسماعيل بإحضار حجرًا؛ كيف كان إبراهيم يبنى الكعبة “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” وبعد أن انتهى إبراهيم وابنه من بناء البيت الحرام؛ أذن في الناس ليحجوا إلى بيت الله الحرام فأقبلت أفواج الناس من كل مكان، وعلمهم إبراهيم مناسك الحج كما علمه الله وأمره، ها نحن ننتهي من قصة إبراهيم مع قصة ابنه إسماعيل، وكيف كان الابن مطيعًا لوالده ولأوامر الله وكان حبه لله فوق أي شئ حتى حياته، وكيف نجح إبراهيم واستعان بالصبر في مواجهة البلاء. لم يترك الله إبراهيم وابنه يتعذبان بل أثابهما لإطاعة أوامره ورفع عنهما البلاء وجعل يوم فداء إسماعيل عيدًا للمسلمين، يحتفلون به كل عام ويذبحون الأضاحي،