ما من شك أن موضوع حماية المستهلك من أصعب المواضيع وأعقدها وأكثرها إثارة للإشكالات ا لقانونية ، فمن ناحية أولى يصعب على الباحث ضبطه لميزة تطوره مع تعقيدات العصر ، ومن جهة أخرى هنالك من المبادئ القانونية العامة ما لا يمكن تخطيه في سبيل حماية المستهلك ، الذي لا يجد حماية أمام الغش المستشري والفساد المستفحل بإعلام مضلل ومخادع باستعمال كل التطور التكنولوجي . ولم تثر طبيعة العلاقة بين طالبي السلع والخدمات وبين مقدميها كبير اهتمام ، إلا مع ظهور التطور الصناعي ، الذي عرى تلك العلاقة ، والكم الهائل من المعلومات التي يحوزه ، والإمكانات المالية الضخمة ال تي بين يديه ، وبدت للعيان علاقة تربط بين طرفين غير متساويين . وكان واقع هذه العلاقة يجد مبرره في ظل النظام الرأسمالي وما ينظر له من الناحية الاقتصادية من أن المنافسة الحرة بين المشروعات ستؤدي إلى كثرة الإنتاج ، وتطوير نوعيته ، وتحسين جودته وانخفاض سعره ، و إحالة المستهلك إلى ملك . ونظرا لأن المشرع قد كرس مبدأ سلطان الإرادة في المادة 106 من القانون المدني، فان للمتعاقدين الحرية المطلقة في تحديد محتوى العقد والالتزامات التعاقدية بشرط عدم تجاوز الأحكام المتعلقة بالنظام العام والآداب العامة ، فحسب أنصار هذا الم بدأ لا أحد يراعي التوازن العقدي أكثر من المتعاقد ذاته ، بمعنى أن المتعاقد يكون أشد حرصا على تحقيق مصلحته ، ولما كان هذا هو المبدأ السائد فإن المتعاقدين يتفاوضان شروط العقد ، ويحددان الالتزامات الناجمة عنه ، ويصبح هذا الالتزام الناشئ عن العقد ملزم للطرفين . لكن الأخذ بمبدأ الحرية التعاقدية على إطلاقه يؤثر سلبا على المشتري ، خاصة أن طلبات الشراء أصبحت أمرا معتادا ومتكررا في حياتنا اليومية ، مما جعله يقدم على إبرام العقود تلقائيا ودون دراسة ولا تدقيق في شروط العقد . وأمام هذه التلقائية وعلى ضوء انعدام خبرة ا لشخص العادي في مواجهة البائع المحترف ، تمكن هذا الأخير من وضع العديد من الشروط المجحفة والتعسفية في تلك العقود ، إذ تتضح صفة التعسف بشكل أوضح حينما تكون هذه العقود مكتوبة أو مطبوعة سلفا . وقد اجتهد الصناعيين في توسيع نطاق المجتمع الاستهلاكي ، أولا داخل حد ود أوطانهم وبعدها خارجها . الشئ الذي جعل بعض المجتمعات وبالأخص النامية منها ، تولج عصر الاستهلاك الواسع النطاق ، مما جعل هذه المجتمعات ، استهلاكية بالدرج ة الأولى . وهو ما فتح من شهية المحترفين بشتى أنواعهم ، إلى غزو عقول المستهلكين ،أخرى ، باعتماد وسائل متطورة للتسويق كالإشهار بشتى طرقه ، والتسهيلات الائتمانية ، بما يؤدي من تحريض المستهلك على الاستهلاك . فظهر أ ول ما ظهر المستهلك كظاهرة اجتماعية في الأربعينات من القرن الماضي ، بسبب النمو الاقتصادي العارم ، متمثلا في كثرة الإنتاج وتنوعه ، مقابلا لاستهلاك جامح من قبل المستهلكين ، مما أدى إلى تعاظم عدم التكافؤ بين الفئتين . فشهدت الولايات المتحدة الأمريكي ة عقب الحرب العالمية الثانية ، نهضة تكنولوجية وصناعية معززة باقتصاد قوي ، ومنه عدم بذل رعاية كافية لمأمن وسلامة منتجاتها التي كثرت وتنوعت . وهو ما جعل المجتمع الأمريكي يتحول إلى مجتمع استهلاكي بالدرجة الأولى ، فظهرت المخاطر ، وفوجئ القضاء بعدد كبير من القضايا التي كان موضوعها الأضرار التي تنتجها المنتجات المعيبة . هذا المناخ الذي عاشه المجتمع الأمريكي في تلك الحقبة ، كان السبب في احتدام الصراع بين كتلتين : كتلة أنصار المطالبين بحقوق المستهلك ، وكتلة مؤيدي الن زعة الفردية والحرية الاقتصادية. كل هذا جعل للولايات المتحدة الأمريكية الريادة في معالجة قضايا حماية المستهلك ، إذ يكفي التذكير بالنجاح البارع الذي حققه المحامي الأمريكي رالف نادر " Ralph Nader " في قضيته الشهيرة ضد شركة السيـارات GENERAL MOTORS ، إذ كشف عن عيوب في هذه السيارات ومدى تأثير ذلك على سلامة المستهلكين بوقوع حوادث مرورية كثيرة ؛ فبرز هذا المحامي كأشهر الشخصيات التي كان لها الفضل في إرساء اللبنة الأولى لقانون حماية المستهلك ، وذلك من خلال جهوده المتميزة والمتواصلة في هذا المجال ، وتبعته شخصيات م رموقة مارست ضغوطا كبيرة على المشرع بغية إجباره على الاعتراف بحقوق جماعة المستهلكين . ومما عزز من قوة دفع قضية حماية المستهلك ، إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق John Kennedy بتاريخ 15 مارس 1962 في خطاب أمام الكونغرس الأمريكي عن الحقـوق الأربعة للمستهلك ، - ا لذي أعتبر فيما بعد يوما عالميا لحقوق المستهلك – وهي : 1 - الحق في الأمن والسلامة الصحية . 2 - الحق في الإعلام . 3 - الحق في الاختيار . كما أن القضاء الأمريكي دعم هذه المسيرة ، باعترافه للمستهلك بحق الرجوع على ا لمنتج في حالة إصابته بضرر منجر عن عيب ، كما سمح أيضا لجموع المستهلكين المتضررين من عيب في نفس المنتج ، بالرجوع على المنتج بدعوى جماعية وليست فردية للمطالبة بحقوقهم جماعيا . وتكملة لذلك ، عمد المشرع الأمريكي إلى تشجيع تكوين لجان ومؤسسات تهدف إلى حماية المست هلك ، ونذكر من أهمها : - لجنة سلامة المنتجات المستهلكة : مهمتها العناية بسلامة المستهلكين من مخاطر السلع الاستهلاكية بمختلف أنواعها . - اللجنة الفدرالية للتجارة : وهي لجنة حكومية ، مهمتها تلقى شكاوى المستهلكين. - منظمة مصالح المستهلكين : لها مهمة استشارية ، تهتم بمد المشورة القانونية للمستهلكين مقابل مبالغ رمزية ، حتى لا تضيع حقوق المستهلك أمام ارتفاع أتعاب المحامين . ولم تلبث أن انتقلت هذه الحركة إلى دول أوروبا الغربية ، حيث ظهر إحساس عميق بالمخاطر المحدقة بالمستهلك جراء الثورة التكنولوجية ، وكذا صدور أولى تشريعات حماية المستهلك ؛ مما أدى إلى بزوغ فرع جديد للقانون أ لا وهو قانون حماية المستهلك أو قانون الاستهلاك . وبطبيعة الحال ، لا يفوتنا في هذا المقام أن نعرج على التجربة الفرنسية الرائدة في مجال حماية المستهلك ، إذ يمكننا القول أن منطلقها كان بإصدار قانون سنة 1905 المتعلق بقمع الغش والذي كان يهدف إلى محاربة أخطار ال منتجات و السلع الغذائية المقلدة أو الفاسدة أو السامة. إلا أن هذا القانون وبعض القوانين التي تلته ، تعرضت لانتقاد حاد من قبل بعض الفقهاء على رأسهم فيليب مالينفو Philippe Malinvaud ، الذي يرى أنه في واقع الأمر و إلى غاية 1978 ، كانت قوانين حماية المستهلك موج هة للمحافظة على النظام الاقتصادي العام أكثر منه لحماية المستهلك ، فهي تعاقب مخالفيها سواء أكانوا الضحايا من المستهلكين أم من غيرهم ؛ وهو ما جعل القضاء الفرنسي مدعما بالفقه ، يتدخل محاولا إعادة التوازن العقدي ، بهدف حماية الطرف الضعيف أي المستهلك ، ويشهد عل ى ذلك آلاف الأحكام التي صدرت خلال الأربعين سنة الماضية . أما القانون الفرنسي الصدر بتاريخ 21 جويلية 1983 المتعلق بسلامة المستهلكين ، فقد جعل فكرة السلامة هدفا في ذاته ، لا مجرد غاية يمكن إدراكه من خلال أهداف أخرى . إذ تنص المادة الأولى منه على أنه « جميع السلع والخدمات يجب أن تتضمن حال استعمالها في ظروف عادية أو في ظروف أخرى يمكن للمهني أن يتوقعها احتياطات السلامة التي يمكن ترقبها شرعا ولا يترتب عليها المساس بصحة المستهلكين » . كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرت بقرارها المرقم 39 / 248 بتاريخ 15 أفريل 1 985 ، المبادئ التوجيهية لحماية المستهلك التي تنص على أربع حقوق إضافية كونت في مجموعها حقوق المستهلك العامة والتي كانت بمثابة قاعدة رئيسية لحماية المستهلك في أنحاء العالم ، وتمثلت هذه الحقوق الأربعة الإضافية في : 1 - حق إشباع احتياجات المستهلك الأساسية . 2 - حق ال حصول على تعويض مناسب . 3 - حق التثقيف . و تنبهت الدول العربية كذلك لأهمية حماية المستهلك ، فقامت بتأسيس الإتحاد العربي للمستهلك سنة 2001 . ولم تكن الجزائر خارج هذا الإهتمام بحماية المستهلك ، فبعد الإستقلال بقي القانون الفرنسي المتعلق بقمع الغش والتدليس لسنة 1905 - سالف الذكر – ساري المفعول ، لحين صدور قانون العقوبات الصادر بأمر رقم : 156 / 66 ، والمؤرخ في 08 جوان 1975 ، إذ اقتصر على سبعة مواد واردة في الباب الرابع من الكتاب الثالث تحت عنوان : " الغش في بيع السلع والتدليس في بيع المواد ا لغذائية والطبية " . وهذا أبعد ما وصل إليه المشرع الجزائري في سبيل حماية المستهلك ، وربما كان قاصدا لذلك ، ففي تلك الفترة كانت الجزائر تعتمد على الاقتصاد الموجه ، حيث تهيمن الدولة على الاقتصاد الوطني ، سواء في التجارة الداخلية أو الخارجية ، فهي المنتج والمس تورد والموزع في آن واحد ،من ندرة المنتجات ، فتحول اهتمام المستهلك الجزائري بالدرجة الأولى في مجرد الظفر بتلك السلع فقط دون الاهتمام بجودتها أو مدى أمنها . وبعد هبوب رياح التغير على المعسكر الاشتراكي ، توجهت الجزائر إ لى الاقتصاد اللبرالي بانتهاجها سياسة اقتصاد السوق ، وكذا محاولة الدخول في المنظومة الاقتصادية العالمية ، فأصبح السوق الجزائري يضج بالسلع والمنتجات من مختلف المصادر العالمية ، مما أعطى كفاية كمية للمستهلك الجزائري ، فأصبح له مجالا واسعا للاختيار ، غير أنه ص احب ذلك تعرضه لأخطار وأضرار يمكن أن تمس مصالحه الاقتصادية أو صحته من جراء التنوع الكثيف للمنتجات المعروضة . ومما يلحظ في هذه الفترة ، غياب أي حماية خاصة بالمستهلك ، موجهة لحماية كافة الأشخاص دون النظر إن كانوا من ال مستهلكين أم لا ، فمصطلح المستهلك لم يكن معروفا أصلا لدى المشرع الجزائري . وبتاريخ 07 فيفري 1989 ، أصدر المشرع الجزائري القانون رقم 89 - 02 المتعلق بالقواعد العامة لحماية المستهلك ، وذلك بالتعاون مع كل الأطراف المعنية بحماية المستهلك ، من منتجين وموزعين وجمعي ات حماية المستهلك ، بغية منه في إعادة الثقة المفقودة للمستهلك تحسينا للممارسات التجارية وتشجيع المنافسة الإيجابية ، مما سيعود بالفائدة على المستهلك بصفة خاصة والاقتصاد الوطني بصفة عامة. وبعد ذلك ، أصدر المشرع الجزائري مجموعة من المراسيم التنفيذية ، تطبي قا لقانون 98 - 02 ، ومن أهمها : - المرسوم التنفيذي رقم: 90 - 39 المؤرخ في 30 جانفي 1990 ، المتعلق برقابة الجودة وقمع الغش. - المرسوم التنفيذي رقم: 90 - 266 المؤرخ في 15 سبتمبر 1990 ، المتعلق بضمان المنتجات والخدمات . - المرسوم التنفيذي رقم: 90 - 366 المؤرخ في 10 ن وفمبر 1990 ، المتعلق بوسم المنتجات المنزلية غير الغذائية وعرضها . - المرسوم التنفيذي رقم: 91 - 53 المؤرخ في 23 فيفري 1991 ، المتعلق بشروط الصحة المطلوبة عند عملية عرض الأغذية للاستهلاك . - المرسوم التنفيذي رقم: 92 - 41 المؤرخ في 04 فيفري 1992 ، المحدد لشروط إن تاج مواد التجميل والتنظيف البدني وتسويقها. - المرسوم التنفيذي رقم: 92 - 43 المؤرخ في 04 فيفري 1992 ، المتعلق بالرخص المسبقة لإنتاج المواد السامة أو التي تشكل خطرا من نوع خاص. - المرسوم التنفيذي رقم: 92 - 65 المؤرخ في 12 فيفري 1992 ،