أولاً : صراعات الأسرة الأموية ترجع طموحات الأمويين وسعيهم للوصول إلى السلطة إلى عهد عثمان بن عفان، استطاع بجهوده الشخصية، أن يصل إلى الحكم في عام (٤١) هـ) بدعم مادي ومعنوي لم يأته من أسرته، وإنما أتاه من جبهة شامية قبلية متماسكة وقفت وراءه، لذلك لم يكن لهذه الأسرة دور بارز في إدارة الدولة في عهده إن من الناحية الإدارية، نلاحظ ذلك من خلال استعراض أسماء ولاة وقادة معاوية الذين استعان بهم (٢). إلا أن معاوية لم يجاف أسرته جفاء تاماً، بل استعان بأفراد منها واضعاً نصب عينيه هدفين الأول : الاستعانة بالأكفاء منهم . الثاني : الحيلولة دون ازدياد سلطانهم ونفوذهم بشكل يهدد مخططاته السياسية (1) . ولعل أبرز مجال اعتمد فيه على بني أمية، فقد اعتمد على مروان بن الحكم في أن يكون رسوله إلى الحجازيين لأخذ البيعة لابنه يزيد . إلى بث الفرقة بين أفراد الأسرة الأموية، والإيقاع بين رجالاتها البارزين الذين قد يشكلون خطراً على سياسته؛ بهدف الحد من (۲) طموحاتهم ". وطبيعي أن تنعكس هذه السياسة الهادفة إلى حصر الخلافة بأفراد بيته، على العلاقات بين أفراد الأسرة، خاصة حين يدب الضعف في أوصال الفرع السفياني فيأتي الفرع المرواني ليستخلص الأمر لنفسه لكن معاوية استطاع تحقيق وحدة الصف الأموي بما كان يمتلك من صفات ومؤهلات قيادية فذة، ويبدو أن هذه الوحدة أخذت بالتداعي حين أعلن عن نيته البيعة لابنه يزيد بولاية العهد . كان مروان بن الحكم الشخصية البارزة، الذي تطلع نحو الخلافة بما كان يمتلك من كفاءات قيادية وإدارية، حين أخذ بتهيئة الأمور لصالحه الشخصي ثم لولده من بعده، لكنه لم يستطع أن يسفر عن معارضته لهذه السياسة أثناء حياة معاوية، وقنع بمجاراته حين أدرك أن الأحداث قد تجاوزته، إلا أن الظروف الداخلية الخطيرة التي كانت تمر بها الخلافة الأموية (۱) والتي تطلبت تضافر جهود الأمويين لمواجهتها؛ منعته من الجهر بمعارضته. وقد تجلى الخلاف ظاهراً بين آل أبي العاص ، وعلى رأسهم مروان بن الحكم، وآل العاص بزعامة سعيد بن العاص من جهة، وآل أبي سفيان من جهة أخرى . ويبدو أن هذه الخلافات ظلت محصورة فلم تؤثر على أوضاع الدولة الفتية الناشئة، وقد امتصها معاوية كما حالت الأحداث الداخلية دون تفاقمها في عهد ابنه المزيد . واتسم موقف مروان بن الحكم من خلافة معاوية الثاني بالسلبية، إذ لم يكن راضياً عن تسلمه الحكم، إلا أن مدة خلافته القصيرة لم تتح له العمل على إبداء سلبيته ، على الرغم من أن بعض الروايات ترجح أن معاوية الثاني مات مسموماً بتدبير من الفئة المعارضة لآل حرب في الأسرة الأموية (٢) . وحانت الفرصة لمروان بن الحكم بأن يتسلم السلطة نتيجة مقررات مؤتمر الجابية . ويبدو أن الأسرة الأموية أرادت أن تضع حداً لما سنه معاوية من حصر السلطة في بيت واحد، أن يخلف مروان كل من خالد بن يزيد بن معاوية، ثم عمرو بن سعيد بن العاص، لكن مروان أراد أن يقتضي بمعاوية، ونجح في إزاحة المرشحين، وأخذ البيعة لابنيه عبد الملك ثم عبد العزيز، ويبدو أنه ذهب ضحية هذا التصرف (۳) . كان ذلك أول خلاف جدي ينشأ بين أفراد الأسرة الأموية بعد استلام الفرع المرواني للخلافة، وقد تفاقم بعد ذلك وظهرت آثاره للعلن. ويُعتبر خلاف عبد الملك بن مروان مع عمرو بن سعيد، من أشد ما وقع من خلاف داخل الأسرة الأموية في هذه الفترة، وقد أدى إلى إراقة دم عمرو على يد عبد الملك بعد سلسلة من الأحداث (۱) ، وقد قضى مقتله على آمال خالد بن يزيد في الخلافة، حكم الفرع المرواني، إلا أن ذلك قد فتح الباب مشرعاً النزاعات كثيرة سوف يشهدها العصر الأموي . ويبدو أن هذه الخلافات لم تؤثر على مسيرة الدولة حتى هذه الفترة، بفعل أنها كانت لا تزال في طور الفتوة، وكان لشخصية عبد الملك بن مروان أثر كبير في ذلك، حيث نجح في إعادة توحيد العالم الإسلامي تحت رايته ، لكن الأحقاد ظلت كامنة في النفوس تتحين الفرصة للانتقام. وقد أيد يحيى بن سعيد، وآلمه مقتل مصعب (۲) . ونهج عبد الملك بن مروان نهج والده، فحصر الخلافة في أولاده بعد وفاة أخيه عبد العزيز، فبايع لا بنيه الوليد وسليمان بولاية العهد . وحدد الوليد سياسته تجاه الأسرة الأموية ضمن اتجاهين : الأول : الاستفادة من القدرات الأموية بما لا يتعارض مع مصالحه الشخصية ، الثاني : عدم السماح بقيام تكتل معارض داخل الأسرة الأموية (۳) مثل الاتجاه الأول توليته عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة، كما عين أخاه عبد الله والياً على مصر (2) وو (٤) وولى أخاه مسلمة قيادة الجيوش على الجبهة البيزنطية . وتجلى الاتجاه الثاني حين قام نزاع بينه وبين أخيه سليمان بسبب موقف الأخير من آل المهلب ، فقد رفض الخليفة إجارة أخيه ليزيد بن المهلب منعاً لقيام مراكز قوى يكون ولاؤها لغير الخليفة، ثم حاول خلع أخيه سليمان وتولية ابنه عبد العزيز، ولما تولى سليمان السلطة عزل جميع ولاة الوليد وقادته، وعين رجالاً يثق بهم ويضمن ولاءهم. وشهد عهده صراع القيادة السياسية مع القيادات العسكرية، كما تعرضت الدولة لنكسة خطيرة في الأندلس تمثلت بمقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير في عام (۹۷) هـ / ٧١٦) (م) مما سيكون له آثار سلبية مهدت لانفصال الأندلس عن جسم الدولة . كان سليمان قد ولى ابن عمه عمر بن عبد العزيز ولياً للعهد من بعده، على أن يخلفه يزيد بن عبد الملك . وقد عارض بعض أفراد الأسرة الأموية هذا التوجه خاصة هشام بن عبد الملك، كما عارض العباس بن الوليد سياسة عمر الانفتاحية، وحصل جفاء بين الرجلين تطوّر إلى تشكيل جبهة معارضة تنامت بمرور الوقت، وقرر المعارضون أخيراً التخلص من الخليفة. وبرز في عهد هشام بن عبد الملك تيار معارض تزعمه ابن أخيه وولي عهده الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ودار صراع بين الرجلين، فقرر الأول خلع الثاني من ولاية العهد وتولية ابنه مسلمة ، إلا أن الوليد أبى أن يخلع نفسه ، وفر من وجه عمه الذي ضايقه، واستمر خارج دمشق حتى وفاة هشام . وبوفاة هشام بن عبد الملك وتسلم الوليد بن يزيد الوليد الثاني، دخلت الأسرة الأموية في صراع جديد اتّسم بالحدة أحياناً، وشكل منطلقاً لسلسلة طويلة من الأحداث المتسارعة ، أدت إلى سقوط دولة الخلافة الأموية كانت علاقة الوليد الثاني بأبناء عمه هشام عدائية ؛ فقد نعتوه بنعوت قاسية، حتى حملوا الناس على الفتك به (۱) . شهدت الساحة الأموية في عهده تدهوراً خطيراً في العلاقات بين أفراد الأسرة الأموية، كما شهدت تدهوراً خطيراً في الأوضاع الداخلية، التي تجلت في تنامي الصراعات القبلية التي كانت السند الأساسي لبني أمية ، بالإضافة إلى بروز صراع الولاة والحكام على السلطة في الأقاليم . ولا شك بأن الانقلاب الداخلي الذي حصل على حكم الوليد الثاني، إنما هو تعبير عن تناقضات كثيرة أصابت الجسم الأموي، كانت موجودة قبل عهده واستمرت بعد تسلمه الحكم. ويُعتبر مقتل هذا الخليفة نذيراً بانهيار الأسرة الأموية، وقد تم على أيدي رجال من بني أمية ، وجماعة من قضاعة واليمنية من أهل دمشق خاصة . فبعد أن كان الحكم الأموي يقوم على قاعدة قوية متماسكة أضحى بعد مقتل الوليد الثاني، يستند على جماعات متفرقة غير متجانسة، ليس لها هدف يوحدها أو مصلحة تجمعها (۱) وازدادت أوضاع الأسرة الأموية تدهوراً على عهد يزيد الثالث، واشتدت صراعات الأمويين الدامية على السلطة، وظهر على مسرح الأحداث مغامرون يريدون أن يحققوا لأنفسهم مكاسب دنيوية في ظل ظروف قاسية بعدما عجزوا عن تحقيقه حين كانت الدولة قوية . وقد شعر كل من مروان بن محمد حاكم الجزيرة وأرمينيا، والعباس بن الوليد بهذه الوطأة وحاولا ردع يزيد . وكانت وفاة يزيد الثالث وبيعة أخيه إبراهيم، من المشاكل الخطيرة التي حلت ببني أمية في بلاد الشام، في الوقت الذي بدا الوهن يظهر جلياً على جسم الدولة وقد أدت هذه البيعة المزعزعة إلى مضاعفات كثيرة وخطيرة أهمها : ازدياد التفسخ في البناء الأموي، وتنامي مطامع الأحزاب والأشخاص من التواقين لانتزاع السلطة من الأمويين . وبرز مروان بن محمد الذي أدرك مخاطر التنازع على السلطة، بعد وفاة يزيد الثالث، كشخصية أموية لها دور مميز في الحياة السياسية ونتيجة لتفاقم الأوضاع الداخلية، واشتداد الأخطار الخارجية في الولايات، قرر مروان حسم الأمور لصالحه ، لكنه واجه عدة حركات معادية في بلاد الشام بشكل خاص تزعمها أفراد من الأسرة الأموية، أمثال سليمان بن هشام بن عبد الملك . وقد انهمك مروان في التصدي لها حتى أنهكت قواه ، ثم وجد نفسه عاجزاً عن التصدي لقوة العباسيين المتنامية ، الذين زحفوا من الشرق وقضوا على دولة الخلافة الأموية . والحقيقة أن الأسرة الأموية لم تمتلك من الغطاء العقائدي ما يقيها خطر التمزق ، بالرغم من أن عمر بن عبد العزيز قد سعى لتأمين هذا الغطاء،