يظهر شرق أوسط جديد على خلفية قرار الواليات المتحدة بتحّديد "الحجم المناسب" لتموضعها العسكري والدبلوماسي، والتأكيد المتزايد لدول المنطقة، ومشاركة روسية وصينية أكبر في شؤون الشرق األوسط. تؤدي هذه التحولات الجيوسياسية إلى تآكل هيمنة واشنطن طويلة الامد في الشرق األوسط وخلق نظام جديد متع ّدد األقطاب. تسارعت هذه التحولات الجيوسياسية بفعل الحرب الروسية على أوكرانيا واشتداد المنافسة العالمية بين القوى العظمى. بوعد أن اعتادت أوروبا منذ فترة طويلة على التحرك في فلك الواليات المتحدة تواجه اآلن جوارا جنوبياً يّتسم بالتحّدي والتنافسية بشكل متزايد. أدت الحرب في أوكرانيا إلى زيادة المنافسة على النفوذ في المنطقة بين الدول الاوروبية ومنافسيها الاستراتيجيين الرئيسيين، كما تسبب الغزو الروسي في حدوث صدمات من خلال أسواق الطاقة والغذاء العالمية، يمكن أن تؤدي إلى تعميق االازمات الانسانية في وقت يعاني فيه الشرق االاوسط بالفعل من انهيار اقتصادي واسع النطاق، قد تكون لذلك آثار غير مباشرة على القضايا المتعلّقة بالهجرة واإلرهاب - وهما تحّديان لطالما سيطرا على المخاوف األوروبية في المنطقة. كما أكدت الحرب على الاهمية المتزايدة للشرق الاوسط كمصدر للطاقة، فيما تتدافع الدول األوروبية لتقليل اعتمادها على النفط والغاز الروسي. كلّما أصبحت أوروبا أكثر تشابًكا مع الشرق األوسط، ازدادت نقاط ضعفها. تجد دول الشرق الاوسط وشمال إفريقيا نفسها في وضع قوي، مع وجود مصادر جديدة للضغط لاستخدامها ضّد العواصم الاوروبية أثناء التحوط بين القوى العالمية. إن إحجام "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة عن الاصطفاف مع الغرب بشأن أوكرانيا - باإلضافة إلى جهود بكين المتسارعة لدفع ثمن نفط الشرق األوسط باليوان بدلاً من الدولار الاميركي – يزيد المشهد الجيوسياسي تعقيًدا. يضاف إلى ذلك احتمال أن تستخدم روسيا وجودها في دول مثل ليبيا وسوريا للر ّد على الدول األوروبية لدعمها أوكرانيا. وقد يؤدي الانهيار المحتمل للمفاوضات النووية الايرانية إلى تعزيز هذه الديناميكيات. للتحول الجيوسياسي في الشرق الاوسط تداعيات هائلة على أوروبا، لكن الاتحاد االاوروبي والدول الاوروبية لا يزال ينظر إليها على نطاق واسع على أنها جهات فاعلة غير مهمة في المنطقة. إن اعتماد الكتلة منذ فترة طويلة على الولايات المتحدة ونقاط الضعف التي يمكن التنبؤ بها - الانقسام وعدم القدرة على الانخراط في خفض المنافسة بين القوى العظمى - جعلها في كثير من الاحيان غير قادرة على تشكيل التطورات. هذا أمر يحتاج إلى التغيير. بينما يسعى الاوروبيون إلى تقديم أنفسهم على أنهم لاعبون أكثر استعداداً وقدرة في النظام العالمي التنافسي فإنهم بحاجة إلى معالجة الطرق التي يؤثر بها الشرق الأوسط أيضاً على المصالح السياسية والاقتصادية والامنية الاساسية. إن تطوير نظام إقليمي متعدد الاقطاب يسلّط الضوء على حاجة الاوروبيين لان يصبحوا فاعلين إقليميين أكثر تأثيراً. يمكن أن يوفر مساحة لتجمعات الدول الاوروبية ذات التفكير المماثل، بما في ذلك النرويج والمملكة المتحدة، لتعزيز المصالح الاوروبية بشكل أكثر فعالية. سيعتمد الكثير على ما إذا كان يمكن للأوروبيين تجّنب المعامالت الضيقة - مدفوعة بشكل خاص باالحتياجات الجديدة للطاقة - من خلال صياغة مواقف أكثر استراتيجية وجماعية بشأن القضايا الرئيسية. يظهر ردّ الدول الاوروبية على الحرب في أوكرانيا أنها تستطيع تبّني سياسة خارجية متماسكة وحازمة عند الحاجة. إنهم بحاجة إلى تكرار هذا الجهد في جوارهم الجنوبي. يجلب الاوروبيون بالفعل الكثير إلى طاولة المفاوضات فيما يتعلّق بالمشاركة الاقتصادية والمالية والسياسية - وهو أمر غالباً ما لا يحظى بالتقدير الكافي. لكن إذا أراد الأوروبيون تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية للشرق الأوسط فإنهم بحاجة إلى أن يكونوا أكثر وضوحاً بشأن ما يمكن تحقيقه. سيتطلّب هذا من أوروبا إظهار البراغماتية المبدئية في الاعتراف بالمنطقة كما هي - وليس كما تريدها - في السعي لتحقيق مصالحها الاساسية. إنهم بحاجة إلى القيام بذلك بطريقة تتجّنب التنازل عن النفوذ للجهات الفاعلة اإلقليمية، والتي لا تزال تتماشى مع مبادئها المهيمنة - من خلال التركيز على دعم الاصالح التدريجي الذي ينطلق من القاعدة الالزمة لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل. يجب أن يتضمن هذا النهج استغالًال أكثر فعالية للفرص التي يوفرها دعم الاستقرار، مع إعادة تشكيل العلاقة عبر الاطلسي لتعظيم فعالية السياسة الغربية على أساس الاعتراف بأولويات أوروبا والولايات المتحدة المتغيرة. الاهم من ذلك هو أن على الأوروبيين أن يقاوموا محاولات النظر إلى المشاركة الإقليمية من خلال العدسة الضيقة لمنافسة القوى العظمى. هذا النهج من شأنه أن يقلّل من مخاطر المزيد من الاستقطاب في الشرق الأوسط وسوف يتماشى مع مصلحة أوروبا في تحقيق الاستقرار في المنطقة. من المؤكد أن الأوروبيين بحاجة إلى مواجهة النفوذ الروسي والصيني المتزايد في جوارهم الجنوبي. لكنهم ما زالوا بحاجة إلى الحفاظ على مساحة لبعض التنسيق مع روسيا والصين بشأن المصالح المشتركة المهمة المتعلّقة بأمن الطاقة وضرورات الاستقرار. في السنوات الأخيرة أظهرت الصراعات بالوكالة المدمّرة في دول مثل ليبيا وسوريا إلى أي مدى يمكن أن تؤدّي التغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط إلى عدم الاستقرار. مع تكيف دول الشرق الأوسط مع النظام الإقليمي الجديد، والانتقال بتردد من الحرب إلى الدبلوماسية، يجب على أوروبا استخدام هذه التعددية القطبية الناشئة لدعم الجهود الدبلوماسية المملوكة إقليمياً لتهدئة النزاعات والمساعدة في استقرار المنطقة.