لما وصل «مجيد» إلى حيث يقف رجال جمارك المطار، فيما بقي أولاده الثلاثةُ يُراقبون ما يجري أمامهم. إنّها المرّة الأولى التي تطأُ فيها أقدامهم أرضَ المطار. على الرغم من اتساعها، هذه جماعة تحلّقت حول شاب في العشرين من عمره، وتلك امرأة تتأبط ذراعَ زوجها المزمع على السفرِ، وتنظرُ إلى ساعة في معصمها، ثم ترفعُ عينيها إلى ساعةٍ كبيرةٍ مُعلّقةٍ على الحائط، قبالتها في البعيد عجوز أثقلت كاهله السنون، وراءَ أسرته التي قدمت لتُودِّعَ أحدَ الشّبانِ المُسافرين؛ أكسبها اللون الأزرق أناقة تلفتُ النَّظَر ، إرتسم العبوس على وجه «مجيد». حاولت زوجته أن تُسرِّيَ عنه. وبقي قناعُ العُبوس على وما لبث أن علا صوتُ المُذيع، داعيًا المُسافرين على متن الطائرة التابعة لخطوط شركة طيران «الشّرقِ الأوسط»، لاجتياز البوابة الداخلية، وقف «مجيد» ونادى أولاده، إستقلَّتْهم وبعض المُسافرين حافلة صغيرة تابعة لشركة الطَّيران المذكورة، وتوقفت قريبًا من الطائرة الجاثمة على حتى ألفى «مجید» نفسه جالسًا على أحد المقاعد فيها . وإذ هدرت مُحركات الطائرة، توجهت المُضيفةُ بالطَّلب إلى المسافرين أن يشُدّوا أحزمة الأمانِ انحدرت دمعتانِ على خدَّيْ (مجيد)، وأسند رأسه إلى ظهر المقعد مجيد» موظف في إحدى دوائر الحكومة تربّى، لا أخ له ولا أُخت. حصل «مجيد» على الشهادة الثانوية. كانت ذات شأن، تُؤْمِّنُ للموظف دخلاً ثابتًا يكفيه للعيش الكريم، وتم له ما أراد. عرقلة أحدٍ ما، بل ويزهو بها، لأنّها تدرُّ عليه المال الوافر. في شؤون لا تعنيه. إعتاد القناعة، وتسلّح بالاستقامة، دمِث الأخلاق، حاضر النكتة، يحترم الكبير والصغير. بعد إحالة الرئيس السابق على التقاعد. أرجع إليه الرئيس أحدَ أصحاب المُعاملات، وكانَتِ السّاعةُ قد قاربَتِ التّاسعةَ والنّصف على ما يذكر، نظرةً على المُعاملة، لتُعيدَ النَّظر فيها. تناول «مجيد» المُعاملة، وراح يتفحصها مُدققًا فيها صفحة صفحةً، ثم أعادها إلى صاحبها قائلاً: مُعاملتك صحيحة مئة في المئة. لا بُدَّ من أنَّ هنالك سوء تفاهم. نظرةً سريعة ، وهز رأسه ولا ينقصها سوى توقيع رئيس الدائرة وختمه». مـا هـي غـيـر دقائق، سيدي. أنا «مجيد الرافع». وأحيانًا ستين. - من الآن فصاعدا، لن تعمل إلا على عشرينَ مُعاملةً كحد أقصى. قالَ المُديرُ مُبتسما. وما الداعي إلى ذلك سيدي ؟ سأل «مجيد». يوما، من رئيسه، تبريرا مقنعا . قال الرئيس بلهجة تشوبها السخرية، ثمّ أضاف جادًا: « توخَيْتُ هذا التدبير، شاءَ ((مجيد) أن يلفت نظر الرئيس، إلى أن سلفَه كانَ يُوقعُ المُعاملاتِ كلها في اليوم نفسه، وبدلاً من ذلك قال: نظر رئيس الدّائرة إلى مجيد) مستنكرًا هذا الجواب، إشرب فنجان قهوة، حضرةَ الرّئيس، وأطلب إليهم العودة في اليوم التالي، ليحصلوا سيدي ؟ لاشيء، يُمكنك الانصراف. نفسها. فقال مجيد : - إن شئت مني الامتثال لأوامرك، خطيًّا. - هل جننت ؟ كيف تُريدُ مني أن آمرك بالأمرِ خَطَّيَّا؟ ألا تفهم يا رجل؟ قال الرئيس صائحًا. أجاب (مجيد) وهو يصطنع البراءةَ وقال: - لا لـم أجنَّ بعد، سيّدي، وأما في شأن الـفـهـم فبصراحة، ولكنه جهد في المُحافظة على هدوئه، لا وفق مشيئة أحد، من مغبة عنادِك والاستمرار في عصيان أوامري. غير أنه رأى نفسه مُصيبا في رأيه، وشعر أنّه يُدافع عن القانون، إنصرف (مجيد) وهو يتحرق غيظًا الدّائرةِ، الذي ضرب بالقانونِ عُرض الحائط. قامَ أحدُ المُوظّفين، بزيارته، بدوره، عند ذلك، الصديق: ليحصلوا على مُعاملتهم في اليوم نفسه ، ثانية، فلا نتذمر، شتان ما بين ما يأتينا نحنُ منها، وما يحصل عليه هو . أليس ذلك صحيحًا يا «مجيد»؟ - ما قلته صحيح، ولكن، فالكل ف مدى نزاهتك. وابتعد ولا تعترض سبيله. نفوذ. فهل هو أقوى من القانونِ الَّذي لم أعتمد، غيره مسلكا؟ وهل يستطيعُ صاحبنا أن يتخطى القانون ويتجاوزه؟ قال «مجيد» وأضاف بلهجة مطمئنة: ولن أكون أداةً تُسيّرها رغبات رئيسي وتصرفاته في هذه الدائرة، إبتسم (مجيد» وقال: من أنا لأُحاسب الناس؟ لست بصدد تقويم شيءٍ يا صديقي، كما أنّ أمرَ مُحاكمةِ النَّاسِ ليسَ مُوَلّحًا إِليَّ كلُّ ما في الأمر أن لي قناعتي ومبادئي، والمحبة والاحترام، ثابر «مجید» على عمله، على هذه الحادثة أسبوعان، بإحدى دوائر جُنَّ «مجيد»، فيُبطلها، ويبقى في بلدته، رغم أنف رئيسه. حصل على موعد من أحد المسؤولين النافذين، وأخبره بقضيّته، وقدَّمَ إليه بُرهانًا على أن طلب نقله مجرّدُ تشفّ وانتقام، ويستهتر بالقانون لحاجة في نفسه. أثنى المسؤول على مجيد»،