بعد ان اضحت خصائص القواعد المادية واضحة جلية، لم يعد تمييزها عن قاعدة التنازع بحاجة الى بحث اخر، الا ان الصراع الفقهي بشان الاساس الذي تستند اليه الارادة في اختيار قانون العقد الدولي بين النظريتين الشخصية والموضوعية، وما يترتب على ذلك من نتائج، هو الدافع الى بحث هذا الموضوع فقد وجد انصار النظرية الشخصية ان رد قدرة المتعاقدين على اختيار قانون العقد الدولي الى مطلق سلطان الارادة يتضمن مغالاة كبيرة في تقديس الارادة الفردية وسموها على القانون فضلا عن كونه يصطدم بالحقائق الوضعية، اذ يتولى المشرعون حتى في الدول الراسمالية ذاتها تنظيم العملية التعاقدية بفرض القواعد الامرة التي لا يجوز الخروج عليها بهدف حماية المصالح العليا للجماعة، وحتى يعيد هؤلاء قدرة المتعاقدين في الاختيار الى القانون، انتهوا الى ان تلك القدرة لا تكمن في مبدأ سلطان الارادة، بل في قاعدة مادية من قواعد القانون الدولي الخـاص في دولة القاضي(1) وبهدف الكشف عن هذه القاعدة الاخيرة كي لا تلتبس بالقواعد المادية محل البحث، كان لابد من تحليل تلك القاعدة وتحديد مضمونها ومن ثم تمييزها عن القواعد المادية ان كان للتمييز محل.اذ يذهب فقه النظرية الشخصية الى تحليل اختيار قانون العقد بعدّه عقد داخل عقد (عندما يتم الاختيار لحظة ابرام العقد الاساسي)، العقد الاساسي يتضمن التنظيم الموضوعي للرابطة العقدية، والعقد الثانوي يتضمن اختيار القانون الواجب التطبيق فيسمى (عقد الاختيار) وقد اقرت اتفاقية لاهاي للقانون الواجب التطبيق على البيع الدولي للمنقولات المادية لعام 1955 خضوع عقد الاختيار لذات القانون المختار بقولها في المادة 2/3 "ان الشروط المتعلقة بتراضي الطرفين حول القانون الواجب التطبيق، يحددها هذا القانون"(2) وهذا ما قررته ايضا اتفاقيات اخرى، كاتفاقيـة روما للقانون الواجب التطبيق على التزامات التعاقدية لعام 1980 في المادة 3/4 واتفاقية لاهاي في 22/12/1986 الخاصة بالبيع الدولي للبضائع وهو ايضا الحل ذاته الذي اعتنقه مجمع القانون الدولي في المادة 4/1 من مشروع عام 1991(1).ويبرر هذا الحل في انه يصون توقعات الاطراف ويحقق الامان القانوني بصرف النظر عن المحكمة المختصة، بينما يذهب اتجاه اخر الى ضرورة اخضاع عقد الاختيار للاحكام المادية في دولة القاضي، بعدّ هذا العقد ضابطا للاسناد اما العقد الاصلي فيخضع للقانون المختار(2) .وخلافا للراي السابق يقرر انصار النظرية الموضوعية ان الاساس الذي يستند اليه المتعاقدون في اختيار قانون العقد الدولي، هو قاعدة من قواعد تنازع القوانين تخضع بمقتضاها الرابطة العقدية للقانون المختار(3).ورغم ان هذا الراي الاخير يعد الراي الراجح فقها، الا انه لا يتفق مع ما يجري عليه الحال امام قضاء التحكيم الدولي الذي تتجه الكثير من احكامه الى ادماج القانون المختار في العقد، وهو ما يرجح معه القول بان قدرة المتعاقدين على الاختيار ترتد الى قاعدة مادية من قواعد القانون الدولي الخاص وليس على قاعدة من قواعد التنازع، والقاعدة المادية المنوه عنها هنا هي قاعدة (العقد شريعة المتعاقدين) ويرجع السبب في ذلك الى ان المحكم بخلاف القاضي، يستمد اختصاصه من ارادة الاطراف وهذا ما يفقد قاعدة الاختيار جانبها التنازعي لتصبح مجرد قاعدة مادية من قواعد القانون الدولي الخاص(4).ولهذا نجد ان هذا الفقه يصر على ضرورة التمييز بين القاعدة المادية الاخيرة وبين القواعد المادية الاخرى في القانون الدولي الخاص نظرا لان الاولى لا تتضمن تنظيما موضوعيا خاصا للعلاقات الدولية الخاصة خلافا للقواعد المادية محل البحث،ومن ناحية ثانية، يقرر جانب اخرمن الفقه، بان اسباغ الطبيعة المادية على قاعدة قانون الارادة اذا كان يستند الى اعتراف غالبية النظم القانونية بتلك القاعدة وذيوعها عالميا، فان هذا الاعتراف لا يجعل منها قاعدة مادية والا فيجب الاعتراف بالطبيعة المادية وليس التنازعية لكل قواعد تنازع القوانين لا سيما قاعدة خضوع المال لقانون موقعه، وقاعدة خضوع الفعل الضار لقانون محل حدوثه، وقاعدة خضوع الاهلية لقانون الجنسية وهكذا(1).وبذا يظهر التمييز بين النوعين من القواعد معتمدا على نوع القضاء الذي يعرض عليه النزاع وبما يؤكد ايضا الطبيعة النسبية لهذا القاعدة، فهي امام القضاء الوطني قاعدة تنازع قوانين لها خصائص واهداف وغاية مادية،